سِّرُّ "بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " الغائِبةِ
حُكْمُ "بسم الله الرحمن الرحيم" أنَّه مشروعٌ للعبدِ مطلوبٌ منه أنْ يبدأ بها عند قراءةِ كُلّ سُورة من كتاب الله تعالى إلَّا عند قراءةِ سُورة التوبة، فإنَّه لا يبدأ بها. وإن كان في الصلاةِ المفروضةِ يقولها سراً إنْ كانت الصلاةُ جهريَّة. ولأنَّ هذه الأحكام مُثْبتة في الإسلام وهو دينٌ كاملٌ صحيحٌ فلابدَّ وأنْ يكونَ ذلك لحِكْمة ...
فقيل لغيابِ "بسم الله الرحمن الرحيم" المحيِّرِ من التوبةِ أنَّها سُورةُ جهادٍ وحربٍ، فلذا نُزعتْ منها معاني الرَحْمةِ المُختزَنةِ في "بسم الله الرحمن الرحيم". لكن الجهادَ أيضاً رَحْمةٌ منه تعالى، وكُلُّ شيءٍ منه سُبحانَهُ رَحْمة. ثُمَّ إنَّ التوبةَ ليست الوحيدةَ المُختصةُ بمواضيع الجهادِ والحربِ، فهناك سُورةُ المُمتحِنةِ والتي – بالرغم من قصرها – تُشابِهُ سُورةَ التوبةِ ...
وقيلَ لأن التوبة تشبِه في مواضيعِها الأنفالَ السابقةَ لها فلم يكن من داعٍ لذِكْرِ "بسم الله الرحمن الرحيم" فيها. لكن سُورا أخرى متشابهة ومتعاقبة تَفصِلُ "بسم الله الرحمن الرحيم" بينها، المعوذتين مثلاً ...
فإن كان لغيابِها من سُورةِ التوبةِ والإسرارِ بها في الصلاةِ الجهريَّةِ من حِكْمة، فلابدَّ من أنَّها حِكْمةٌ بالغةٌ بحجمِ أهَميَّةِ وفضلِ "بسم الله الرحمن الرحيم" ، وهو فضلٌ عظيمٌ ... فضلُ فاتحةِ الكتابِ ... وهو ما نحن بصددِ سبر أغواره فيما يلي ...
"بسم الله الرحمن الرحيم" غائبةٌ من سُورةِ التوبةِ، وعليه يبدأ البحثُ عن سرِ غيابِها من هناك. من المعْلُوم ظهور "بسم الله الرحمن الرحيم" وحيدةٍ في المُصحفِ في غير موضعِها المعروفِ في مطالع السُور، وذلك في الآيةِ 27 من سُورةِ النمل.
فأوَّلُ ما يخطرُ بالبال هو عمَّا إذا كانت هناك علاقةٌ بين الموضعين. أي هل "بسم الله الرحمن الرحيم" فيهما مرتبطتان بشكلٍ أو بآخرٍ؟ هل "بسم الله الرحمن الرحيم" النملِ هي ما غابَ من التوبةِ؟ وإن كان كذلك فما هي الحِكْمة؟ وهل من رسالةٍ مُبَّطنةٍ؟ هذا ما سنُلقى الضوءَ عليه في النقاطِ التاليَّةِ:
· موضعغيابِ"بسم الله الرحمن الرحيم" هو الآيةُ الأولى من التوبة، وهي إعلانُ حربٍ واستعلاءٌ على المشركين عبدةِ الأصنامِ {بَرَاءَةٌمن الله إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ...}.
وموضعُ حضورِها في النملِ هو أيضاً إعلانُ حربٍ على المشركين عبدةِ الشمسِ: إنَّه من سُليْمَنَ وإنَّه بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {30} ألّاتعْلُواعَلَىَّ وأتُونِى مُسْلِمِينَ {31}.
· ترتيبُ التوبةِ 3×3وترتيبها في النزول في المدينةِ المنورةِ فهو 27 أي 3×3×3 ...
وبالنسبةِللنمل، فترتيبُها هو أيضاً 27 أي 3×3×3 !
من الملفت أنَّ "بسم الله الرحمن الرحيم" موجُودةٌ في آيةِ 30 من سُورةِ النمل أيضاً:إنَّه من سُليْمَنَ وإنَّه بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {30} ...
فيبدو أنَّ "بسم الله الرحمن الرحيم" فيهما مرتبطتانِ ببعضِهما البعض، وأنَّ الموضوعَ برمته مرتبطٌ بعلاقةٍ وطيدةٍ بالرقمِ 3 !
فإنْ كان كذلك، فما هي آية 30 من سُورةِ التوبةِ؟ وهل تدلُنا على شيءٍ ما؟ الجوابُ نعم.
فالآيةُ30 من التوبةِ هي الآيةُ التي ذُكرَ فِيها النَبِيُ الغائبُ من بني إسرائيلَ {عُزَيْر} {وقَالتِ اليهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله ....} ولم يُذْكَر اسمُ هذا النبيِّ صراحةً في أيِّ موضِعٍ آخر من المصحفِ.
فـ {عُزَيْر} هو النبيُ الذيغابَعن قومِه مائة عامٍ، وجعلَهُ عزَّ وجلَّآيةً للناس بإماتته وبعثه. فذِكرُ اسمِ هذا النبيِ الغائبِ في هذه السُورةِ وهذه الآيةِ تحديداً من دونِ الآياتِ كلِّها في المُصحفِ دلالةٌ على غيبةِ الرقمِ 3التي نتبع أثرها في هذا الفصل ...
· الأحرفُ النورانيَّة "طس" و "طسم" لم تردْ إلَّا في 3سُورٍ متتاليَّةٍ وهي الشعراء والنمل والقصص.
فلو سردنا أوَّلَ كلماتِ هذه السور على الترتيب نَجِد: طسم ، طس ، طسم . فلماذا اختفى حرف "م" في النمل من "طسم"؟
الحرف "م" يعني "الكتاب" من منظورنا الذي أثبتناه في مقالات أخرى، فلو نظرنا إلى ترتيبِ حرف "م" الغائبةِمن "طسم" نَجِدُها في الترتيبِ 3، فيكونُ المعنى إذن:
الكتابُ الغائبُ هو 3 . فحرفُ الـ "م" الغائبة من مطلع النملِ هو الكتابُ رقم "3" ...
· تنتهي سُورةُ التوبةِ بقوله تعالى {.... وهُو ربُّ العَرشِ العَظِيمِ 129}. أمَّا في النمل، فقد وردتْ كلمةُ العرش ومشتقاتُها بتواترٍ لا نظيرَ له في القُرآنِ: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ {آية 23} .... اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ{آية 26}... أَيُّكُمْ يَأْتِينى بِعَرْشِهَا {آية 38} .... قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا {آية 41} ... قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ {آية 42}....
· قِصَّةُ نبيِّ الله سليمنَ (من آية 15 إلى آية 44 من سورة النمل) من أغربِ القصصِ في القُرآنِ الكريمِ. فهل فيها إشاراتٌ إلى ارتباطِ "بسم الله الرحمن الرحيم" فيها بتلك الغائبة من سُورةِ التوبة؟ نعم، فالقِصَّة بمُجْمَلها تدور حول هذا الموضوع. فسياقُ قِصَّةُ سليمنَ يُلَمِحُ إلى شيءٍ ما غائبٍ ثُمَّ البحثُ عنه ثُمَّ أخيراً اكتشافه ... وهذا الغائبُ هو "بسم الله الرحمن الرحيم" كما سأبيَّنه فيما يلي ...
تأمل في الآيتين التاليتينِ:
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَنَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ {17} حَتَّى إِذَا أتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌيأيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيمَنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {18}
فقولُ النملةِ: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} يعني اختبئوا وغيبوا ...
ثُمَّ تأمل قول سُليمنَ في الآيةِ 20 {وتفقَّدَ الطَّيرَ فقالَ مَالِىَ لا أرَى الهُدْهُدَ؟ } فمن هنا بدأ البحثُ عنالغائبِ... ثُمَّ {أم كانَ مِنَ الغَائبينَ} إشارةٌ صريحةٌ أخرى إلى هذا الغائبِ... والغائبُ هو الطيرُ ... وقد غابَ ليبحثَ عن غائبٍ آخر. فالطيرُ من يأتي بالخبرِ كما في المثلِ المتداولِ – جيب الخير يا طير- ...
أجابَ الطيرُ وبعد بحثٍ طويل {... وَجِئتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، أي وجدتُ ما تبحثُ عنه ... عن الغائبِ ... وهوخَبءٌ عظيمٌ... عِظَمَ السموات والأرض ... وقد كشفه الله تعالى {... الذِي يُخْرِجُالخَبْءَفِى السَّمَوَاتِ والأرضِ، ويَعلَمُ ما تُخفُونَ وما تُعلِنونَ} ...
وفي الآية 27 أي 3×3×3 يستمر البحث عن الغائب: قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكاذبينَ{3×3×3:3×3×3} ...
فقال سليمن آمراً : {اذْهَب بِّكِتابِىهَذا ...} وهنا تبدأُ الإشارةُ والتلميحُ إلى أنَّ الغائبَ والخَبْءَ إنَّما هو "بسم الله الرحمن الرحيم" إذ أنَّ "بسم الله الرحمن الرحيم" والكتابَمرتبطان ارتباطاً وثيقاً عندنا نحن المسلمين، فهي وقبل كُلِّ شيءٍ، "بسم الله الرحمن الرحيم" الكتابِ ...
قالت بلقيس: {يأيُّها المَلَؤا إنِّى أُلقِىَ إلىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} و "بسم الله الرحمن الرحيم" كتابةٌكريمةُ ... {إنَّهمن سُليْمَنَوإنَّهبِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم 30 } ...
لاحظ تِكْرارَ كلمةِ " إنَّه " والسببُ هو الإشارةُ إلى الوصولِ للمُبتغى. فعندما يجدُ الإنسانُ ما يبحثُ عنه يصرخُ:وجدته ... وجدته ... {إنَّه} ...وجدته{إنَّه} {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ30} ... فها هُو الكتابُ الغائبُ قد وُجِدَ!
· حسناً بدأنا بحثنا عن "بسم الله الرحمن الرحيم" الغائبةِمن سُورةِ التوبةِ ذاتِ الترتيبِ 3×3ثُمَّ وجدناها في السُورةِ 3×3×3وهي السورة التي تتحدث كثيراً عن شيءٍ غائبٍ ... فماذا لو أكملنا مسار الرقم3 ونظرنا إلى السُورةِ {3×3×3×3} أي 81 ، فماذا نجد؟
إنَّها سُورةُ التكويرِ والتي مطلُعها {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} . والتكويرُ هو الانطفاءُ والاختباءُ، وتكويرُ الشمسِ هو لفُّها وانطفاءُ نورِها وهو ما يعني إذن غيابها عن الأبصارِ.
وفيها أيضاً يُقْسِمُ سُبحانَهُ بـ {الخُنَّس} وهو (المُتخفي) الذي يظهرُ أحياناً ويخبو أحياناً وهذا إشارةٌ إلى الرقم 3أو الكتابِ الذي لا عوجَ له "ا" أو الرقم "1" .
وجاء ذِكرُ {الْكُنَّسِ} وهو من الكَنْسِ أي الاختباءِ فـ {الْكُنَّس} هو جمع كانِس، وهي التي تغيب، من كَنَسَ الظبيُ إذا تغيبَ واستترَ في كِناسِهِ، وهو الوضعُ الذي يأوي إليه.
وأخيراً جاءَ في سورة التكوير قوله تعالى: وَالَّيلِ إِذَاعَسْعَسَ ... و{عَسْعَسَ} الليلُ أي مضى وأظلمَ ...
وقد تكلمنا عن سورةِ التكويرِ وأمّ الكتاب في معرض حديثنا عن حرف الألف ...
أوضحنا أعلاه أنَّ "بسم الله الرحمن الرحيم" في أوَّلِ التوبةِ ترتبِطُ بعلاقةٍ وثيقةٍ بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" في النمل. وبيَّنا كذلك أنَّ الرقم 3 مُرتبطٌ بمعاني الاختباءِ والتخفيفي "بسم الله الرحمن الرحيم" وفي السور والآيات التي تحمل الرقم 3أو مضاعفاته.
لكنْ ما الحِكْمة من إخفاءِ شيءٍ من مكانِه وإظهاره في مكانٍ آخر؟ لابدَّ وأنَّها لفتُ النظرِ والإخبارُ عن شيءٍ ما بطريقةٍ أنيقةٍ لطيفةٍ. فما هو هذا الشَيءُ؟
إذا أخفينا شيئاً في مكانٍ ما وتركنا عمداً آثاراً تدلُّ على مكانِ الإخفاءِ، فما تُراهُ الغرضُ؟ فلو كان الغرضُ إخفاءَ الشيءِ إلى الأبدِ لما تركنا آثاراً دالَّةً على المكان! إذاً لابدَّ وأنْ تكونَ الحِكْمة من الإخفاءِ مع تركِ بعضِ الآثار هي لفتُ النظرِ إلى مكانِ الإخفاءِ.
من منظورنا، فإنَّ إخفاءَ "بسم الله الرحمن الرحيم" من مكانِها في أوَّلِ سُورةِ التوبةِ {3×3} وإظهارَها في الآيةِ30 من سُورةِ النملِ {3×3×3}، ووضعَ العديدِ من الإشاراتِ التي تومئإلى الرقم 3 في سورِ التوبة والنمل والتكوير وغيرها ما هو إلَّا (خريطةَ الكنز) ...
أمَّا الكنزُ المُكتشفُ فهو الرقمُ 3 وهو الحِكْمةُ البالغة المرادُ اكتشافها ... وهذا ما بيناه في مقالات الرعد والنحل والنمل وغيرها ...
وتعالى سبحانه عما نقول علواً كبيرا
والصلاة والسلام على حبيب الخلق والوجود
سيدنا ونبينا محمد المحمود
وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الخلود