عمار بن ياسر
خرج والد عمار بن ياسر من بلده اليمن يريد أخا له ، يبحث عنه ، وفي مكة طاب له
المقام فحالف أبا حذيفة بن المغيرة ، وزوجه أبو حذيفة إحدى إمائه سمية بنت خياط
ورزقا بابنهما عمار ، وكان إسلامهم مبكرا .
اسلامه
يقول عمار بن ياسر رضي الله عنه :
( لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها
فقلت له : ماذا تريد ؟
فأجابني : ماذا تريد أنت ؟
قلت له : أريد أن أدخل على محمد ، فأسمع ما يقول
قال : وأنا أريد ذلك
فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض علينا الاسلام ، فأسلمنا ثم مكثنا على
ذلك حتى أمسينا ، ثم خرجنا ، ونحن مستخفيان ) فكان إسلامهما بعد بضعة وثلاثين رجلا .
العذاب
وشأن الأبرار المبكرين أخذ آل ياسررضي الله عنهم نصيبهم الأوفى من عذاب قريش
وأهوالها ، ووكل أمر تعذيبهم إلى بني مخزوم ، يخرجون بهم جميعا ياسر و سمية
وعمار كل يوم الى رمضاء مكة الملتهبة ويصبون عليهم من جحيم العذاب ، وكان
الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج كل يوم الى أسرة ياسر محييا صمودها وقلبه
الكبير يذوب رحمة وحنانا لمشهدهم ، وذات يوم ناداه عمار :
( يا رسول الله ، لقد بلغ منا العذا كل مبلغ )
فناداه الرسول صلى الله عليه وسلم :
" صبرا أبا اليقظان ، صبرا آل ياسر فإن موعـدكم الجنة "
ولقد وصـف أصحاب عمار رضي الله عنه العذاب الذي نزل به فيقول عمـرو بن ميمون
رضي الله عنه :
أحرق المشركون عمار بن ياسررضي الله عنه بالنار ، فكان الرسول صلى الله عليه
وسلم يمر به ، ويمر يده على رأسه ويقول :
" يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت بردا وسلاما على إبراهيم "
ويقول عمرو بن الحكم رضي الله عنه :
كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول وقد فقد وعيه يوما فقالوا له :
اذكر آلهتنا بخير وأخذوا يقولون له وهو يردد وراءهم من غيـر شعور ، وبعد أن أفاق
من غيبوبتـه وتذكر ما كان طار صوابـه ، فألفاه الرسـول صلى اللـه عليه وسلم يبكي
فجعل يمسح دموعه بيده ويقول له :
" أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت : كذا وكذا ؟ "
أجاب عماررضي الله عنه وهو ينتحب : ( نعم يا رسول الله )
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم :
" إن عادوا فقل لهم مثل قولك هذا "
ثم تلا عليه الآية الكريمة قال تعالى :
(( مَنْ كَفَرَ باللهِ من بعد إيمانِهِ إلا من أُكْرِه وقلبُهُ مُطْمَئِنٌ بالإيمان ))
واسترد عمار سكينة نفسه ، وصمد أمام المشركين وعن عثمان بن عفان رضي
الله عنه قال :
( أقبلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بيدي نتماشى في البطحاء حتى
أتينا على أبي عمار وعمار وأمه ، وهم يعذبون فقال ياسر رضي الله عنه : ( الدهر هكذا ؟ )
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
" اصبِر ، اللهم اغفر لآل ياسر ، وقد فعلت "
فصبروا حتى نالت أمه سمية رضي الله عنها الشهادة بعد أن طعنها أبوجهل
بحربة ماتت على إثرها فكانت اول شهيدة في الاسلام وكانت سمية حين استشهدت
امرأة عجوز ، فقيرة ، متمسكة بالدين الإسلامي ، ثابته عليه ، وكان إيمانها الراسخ
في قلبها هو مصدر ثباتها وصبرها على احتمال الأذى الذي لاقته على أيدي المشركين .
الدروس والعبر من الشهيدة سمية
سمية بن الخياط هي من أهم المجاهدات المسلمات اللواتي احتملن الأذى والعذاب،
الذي كان يلقاه المسلمون على أيدي المشركين في ذلك الوقت ، وهي ممن بذلوا
الغالي والنفيس في ذات الله تعالى كان إيمانها القوي بالله تعالى هو سبب ثباتها
على الإسلام ورفضها دينا غيره، فقد وقر الإيمان في قلبها وذاقت لذته وأيقنت
أنه فيه سعادتها في الدنيا والآخره، فوكلت أمرها إلى الله تعالى محتسبه وصابرة
أن يجزيها الله تعالى خيرا على صبرها ويعاقب المشركين .
الهجرة
وهاجر عمار ( أبو اليقظان ) رضي الله عنه الهجرة الثانية إلى الحبشة ، ولما هاجر
من مكة إلى المدينة نزل على مبشر بن عبد المنذر ، وآخى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان ، وشهد عمار بدرا والمشاهـد كلها ،
وهو أول من اتخذ في بيته مسجدا يصلي فيه
حب الرسول لعمار
استقر المسلمون بعد الهجرة في المدينة ، وأخذ عمار رضي الله عنه مكانه عاليا
بين المسلمين ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه حبا عظيما ، يقول عنه صلى الله عليه وسلم :
" إن عمارا ملىء إيمانا إلى مُشاشه ( تحت عظامه) "
وحين كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة إثر نزولهم ،
إرتجز علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه ،
وأخذ عمار يرددها ويرفع صوته ، وظن بعض أصحابه أن عمارا رضي الله عنه يعرض
به ، فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : " ما لهم ولعمار ؟
يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفي "
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال :
كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة ، وعمار يحمل لبنتَين لبنتَين ، فرآه النبي صلى
الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول :
" ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار "
وحين وقع خلاف عابر بين خالد بن الوليد وعمار قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
" من عادى عمارا عاداه الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله "
فسارع خالد إلى عمار معتذرا وطامعا بالصفح كما قال صلى الله عليه وسلم :
" اشتاقت الجنة إلى ثلاثة : إلى علي وعمار وبلال "
إيمانه
لقد بلغ عمار في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يزَكي إيمانه فيقول :
" اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار "
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
" ابن سمية ما عُرِض عليه أمر إلا اختار أشدهما "
وقال رسـول اللـه صلى اللـه عليه وسلم :
" عمار يزول مع الحق حيثُ يزول "
كما أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو يعالج سكرات الموت سأله أصحابه :
بمن تأمرنا إذا اختلف الناس ؟
فأجابهم :
( عليكم بابن سمية ، فإنه لا يفارق الحق حتى يموت )
وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" أبو اليقظان على الفطرة لا يدعها ، حتى يموت أو يمسه الهرمُ "
وعن علي رضي الله عنه قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" دمُ عمار ولحمه حرام على النار أن تطعمه "
نبوءة الرسول
أثناء بناء مسجد الرسـول صلى الله عليه وسلم أخذ الحنان الرسـول الكريـم صلى
الله عليه وسلم الى عمار رضي الله عنه ، فاقترب منه ونفض بيده الغبار الذي كسـى
رأسه ، وتأمل الرسول صلى الله عليه وسلم وجه عمار الوديع المؤمن ثم قال على ملأ من أصحابه :
" ويح ابن سمية ، تقتله الفئة الباغية "
وتتكرر النبوءة حين يسقط الجدار على رأس عمار فيظن بعض إخوانه أنه مات ،
فيذهب الى الرسول صلى الله عليه وسلم ينعاه ، فيقول الرسول صلى الله عليه سلم بطمأنينة وثقة :
" ما مات عمار ، تقتل عمارا الفئة الباغية "
قتال الإنس والجن
قال عمار بن ياسر رضي الله عنه :
( قد قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنس والجن )
فقيل له : ما هذا ؟ قاتلت الإنس فكيف قاتلت الجن ؟ قال :
( نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فأخذت قِربتي ، ودلوي لأستقي ،
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أما أنه سيأتيك آت يمنعك من الماء "
فلما كنت على رأس البئر إذا رجل أسود كأنه مرس فقال :
لا والله لا تستقي منها ذنوبا واحدا
فأخذته فصرعته ، ثم أخذت حجرا فكسـرت به أنفه ووجهـه ، ثم ملأت قربتـي
فأتيت بها رسـول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
" هل أتاك على الماء من أحد ؟ "
فقلت : ( عبد أسود )
فقال : " ماصنعت به ؟ "
فأخبرته فقال : " أتدري من هو ؟ "
قلت : ( لا )
قال : " ذاك الشيطان ، جاء يمنعك من الماء !! "
يوم اليمامة
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واصل عمار تألقه في مواجهة جيوش
الردة والفرس والروم ، وكان دوما في الصفوف الأولى ، وفي يوم اليمامة انطلق
البطل في استبسـال عاصف ، وإذا يرى فتـور المسلمين يرسل بين صفوفـهم صياحه
المزلزل فيندفعون كالسهام ، يقول عبـد الله بن عمـر رضي الله عنهما :
( رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخـرة ، وقد أشرف يصيح :
( يا معشر المسلمين أمن الجنة تفـرون ؟ أنا عمار بن ياسر هلموا إلي )
فنظرت إليه فإذا أذنه مقطوعة تتأرجح ، وهو يقاتل أشد القتال )
ولاية الكوفة
لفضائله رضي الله عنه سارع عمر بن الخطاب رضي الله عنه واختاره واليا للكوفة
وجعل ابن مسعود رضي الله عنه معه على بيت المال ، وكتب الى أهلها مبشرا :
( إني أبعث إليكم عمار بن ياسر أميرا ، وابن مسعود معلما ووزيرا ، وإنهما لمن
النجباء من أصحاب محمد ومن أهل بدر )
يقول ابن أبي الهذيل وهو من معاصري عمار رضي الله عنه في الكوفـة :
رأيت عمار بن ياسر وهو أميـر الكوفة يشتري من قِثائها ، ثم يربطها بحبـل
ويحملها فوق ظهـره ويمضي بها الى داره ، كما ناداه أحد العامة يوما : يا أجدع الأذن
فيجيبه الأمير :
( خير أذني سببت ، لقد أصيبت في سبيل الله )
عمار والفتنة
وكلما كانت الأيام تمر، كان هو يكثر من لهجه وتعوذه ، كأنما كان قلبه الصافي
يحس الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه.
وحين وقع الخطر ونشبت الفتنة، كان ابن سمية يعرف مكانه فوقف يوم صفين
حاملا سيفه وهو ابن الثالثة والتسعين كما قلنا ليناصر به حقا من يؤمن بوجوب مناصرته.
ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائلا :
( ايها الناس : سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يثأرون لعثمان ،
ووالله ما قصدهم الأخذ بثأره، ولكنهم ذاقوا الدنيا، واستمرءوها ، وعلموا أن
الحق يحول بينهم وبين ما يتمرغون فيه من شهواتهم ودنياهم.
وما كان لهؤلاء سابقة في الاسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم ، ولا الولاية
عليهم، ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على اتباع الحق.
وانهم ليخادعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان وما يريدون الا أن يكونواجبابرة وملوكا )
ثم أخذ الراية بيده ، ورفعها فوق الرؤوس عالية خافقة ، وصاح في الناس قائلا :
( والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وهأنذا أقاتل بها اليوم والذي نفسي بيده لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر ،
لعلمت أننا على الحق ، وأنهم على الباطل )
ولقد تبع الناس عمارا ، وآمنوا بصدق كلماته وقد كانت نبوءة رسول الله صلى الله
عليه وسلم تتألق أمام عينيه بحروف كبيرة :
" تقتل عمار الفئة الباغية "
من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة :
( اليوم القى الأحبة محمدا وصحبه )
كان ابن الثالثة والتسعين ، يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة كان يلقن
الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحق ، ويترك لها آخر مواقفه
العظيمة، الشريفة المعلمة.
ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمار رضي الله عنه ما استطاعوا ، حتى لا تقتله
سيوفهم فيتبين للناس أنهم الفئة الباغية..
بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد ، أفقدتهم صوابهم ، فأخذ بعض
جنود معاوية يتحينون الفرصة لاصابته ، حتى اذا تمكنوا منه أصابوه.
الشهيد
حمل علي عمارا رضي الله عنهما الى حيث صلى عليه والمسلمـون معه ، ثم دفنه
في ثيابه ، ووقف المسلمون على قبـره يعجبون ، فقبل قليـل كان يغـرد :
( اليوم ألقى الأحبة محمدا وصحبه )
أكان معهم اليوم على موعد يعرفه ، وميقات ينتظره...؟؟
وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون...قال أحدهم لصاحبه :
أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينةونحن جالسون مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه وقال :
" اشتاقت الجنة لعمار "
قال له صاحبه نعم ، ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال
اذن فالجنة كانت مشتاقة لعمار..
واذن ، فقد طال شوقها اليه ، وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته ، وينجز
آخر واجباته .. ولقد أداها في ذمة ، وأنجزها في غبطة..
أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟
بلى آن له أن يبلي النداء.. فما جزاء الاحسان إلا الاحسان..
وهكذا ألقى رمحه ومضى ..
وحين كان تراب قبره يسوى بيد أصحابه فوق جثمانه ، كانت روحه تعانق
مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق، التي طال شوقها لعمار...
خرج والد عمار بن ياسر من بلده اليمن يريد أخا له ، يبحث عنه ، وفي مكة طاب له
المقام فحالف أبا حذيفة بن المغيرة ، وزوجه أبو حذيفة إحدى إمائه سمية بنت خياط
ورزقا بابنهما عمار ، وكان إسلامهم مبكرا .
اسلامه
يقول عمار بن ياسر رضي الله عنه :
( لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها
فقلت له : ماذا تريد ؟
فأجابني : ماذا تريد أنت ؟
قلت له : أريد أن أدخل على محمد ، فأسمع ما يقول
قال : وأنا أريد ذلك
فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض علينا الاسلام ، فأسلمنا ثم مكثنا على
ذلك حتى أمسينا ، ثم خرجنا ، ونحن مستخفيان ) فكان إسلامهما بعد بضعة وثلاثين رجلا .
العذاب
وشأن الأبرار المبكرين أخذ آل ياسررضي الله عنهم نصيبهم الأوفى من عذاب قريش
وأهوالها ، ووكل أمر تعذيبهم إلى بني مخزوم ، يخرجون بهم جميعا ياسر و سمية
وعمار كل يوم الى رمضاء مكة الملتهبة ويصبون عليهم من جحيم العذاب ، وكان
الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج كل يوم الى أسرة ياسر محييا صمودها وقلبه
الكبير يذوب رحمة وحنانا لمشهدهم ، وذات يوم ناداه عمار :
( يا رسول الله ، لقد بلغ منا العذا كل مبلغ )
فناداه الرسول صلى الله عليه وسلم :
" صبرا أبا اليقظان ، صبرا آل ياسر فإن موعـدكم الجنة "
ولقد وصـف أصحاب عمار رضي الله عنه العذاب الذي نزل به فيقول عمـرو بن ميمون
رضي الله عنه :
أحرق المشركون عمار بن ياسررضي الله عنه بالنار ، فكان الرسول صلى الله عليه
وسلم يمر به ، ويمر يده على رأسه ويقول :
" يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت بردا وسلاما على إبراهيم "
ويقول عمرو بن الحكم رضي الله عنه :
كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول وقد فقد وعيه يوما فقالوا له :
اذكر آلهتنا بخير وأخذوا يقولون له وهو يردد وراءهم من غيـر شعور ، وبعد أن أفاق
من غيبوبتـه وتذكر ما كان طار صوابـه ، فألفاه الرسـول صلى اللـه عليه وسلم يبكي
فجعل يمسح دموعه بيده ويقول له :
" أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت : كذا وكذا ؟ "
أجاب عماررضي الله عنه وهو ينتحب : ( نعم يا رسول الله )
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم :
" إن عادوا فقل لهم مثل قولك هذا "
ثم تلا عليه الآية الكريمة قال تعالى :
(( مَنْ كَفَرَ باللهِ من بعد إيمانِهِ إلا من أُكْرِه وقلبُهُ مُطْمَئِنٌ بالإيمان ))
واسترد عمار سكينة نفسه ، وصمد أمام المشركين وعن عثمان بن عفان رضي
الله عنه قال :
( أقبلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بيدي نتماشى في البطحاء حتى
أتينا على أبي عمار وعمار وأمه ، وهم يعذبون فقال ياسر رضي الله عنه : ( الدهر هكذا ؟ )
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
" اصبِر ، اللهم اغفر لآل ياسر ، وقد فعلت "
فصبروا حتى نالت أمه سمية رضي الله عنها الشهادة بعد أن طعنها أبوجهل
بحربة ماتت على إثرها فكانت اول شهيدة في الاسلام وكانت سمية حين استشهدت
امرأة عجوز ، فقيرة ، متمسكة بالدين الإسلامي ، ثابته عليه ، وكان إيمانها الراسخ
في قلبها هو مصدر ثباتها وصبرها على احتمال الأذى الذي لاقته على أيدي المشركين .
الدروس والعبر من الشهيدة سمية
سمية بن الخياط هي من أهم المجاهدات المسلمات اللواتي احتملن الأذى والعذاب،
الذي كان يلقاه المسلمون على أيدي المشركين في ذلك الوقت ، وهي ممن بذلوا
الغالي والنفيس في ذات الله تعالى كان إيمانها القوي بالله تعالى هو سبب ثباتها
على الإسلام ورفضها دينا غيره، فقد وقر الإيمان في قلبها وذاقت لذته وأيقنت
أنه فيه سعادتها في الدنيا والآخره، فوكلت أمرها إلى الله تعالى محتسبه وصابرة
أن يجزيها الله تعالى خيرا على صبرها ويعاقب المشركين .
الهجرة
وهاجر عمار ( أبو اليقظان ) رضي الله عنه الهجرة الثانية إلى الحبشة ، ولما هاجر
من مكة إلى المدينة نزل على مبشر بن عبد المنذر ، وآخى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان ، وشهد عمار بدرا والمشاهـد كلها ،
وهو أول من اتخذ في بيته مسجدا يصلي فيه
حب الرسول لعمار
استقر المسلمون بعد الهجرة في المدينة ، وأخذ عمار رضي الله عنه مكانه عاليا
بين المسلمين ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه حبا عظيما ، يقول عنه صلى الله عليه وسلم :
" إن عمارا ملىء إيمانا إلى مُشاشه ( تحت عظامه) "
وحين كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة إثر نزولهم ،
إرتجز علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه ،
وأخذ عمار يرددها ويرفع صوته ، وظن بعض أصحابه أن عمارا رضي الله عنه يعرض
به ، فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : " ما لهم ولعمار ؟
يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفي "
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال :
كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة ، وعمار يحمل لبنتَين لبنتَين ، فرآه النبي صلى
الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول :
" ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار "
وحين وقع خلاف عابر بين خالد بن الوليد وعمار قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
" من عادى عمارا عاداه الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله "
فسارع خالد إلى عمار معتذرا وطامعا بالصفح كما قال صلى الله عليه وسلم :
" اشتاقت الجنة إلى ثلاثة : إلى علي وعمار وبلال "
إيمانه
لقد بلغ عمار في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يزَكي إيمانه فيقول :
" اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار "
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
" ابن سمية ما عُرِض عليه أمر إلا اختار أشدهما "
وقال رسـول اللـه صلى اللـه عليه وسلم :
" عمار يزول مع الحق حيثُ يزول "
كما أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو يعالج سكرات الموت سأله أصحابه :
بمن تأمرنا إذا اختلف الناس ؟
فأجابهم :
( عليكم بابن سمية ، فإنه لا يفارق الحق حتى يموت )
وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" أبو اليقظان على الفطرة لا يدعها ، حتى يموت أو يمسه الهرمُ "
وعن علي رضي الله عنه قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" دمُ عمار ولحمه حرام على النار أن تطعمه "
نبوءة الرسول
أثناء بناء مسجد الرسـول صلى الله عليه وسلم أخذ الحنان الرسـول الكريـم صلى
الله عليه وسلم الى عمار رضي الله عنه ، فاقترب منه ونفض بيده الغبار الذي كسـى
رأسه ، وتأمل الرسول صلى الله عليه وسلم وجه عمار الوديع المؤمن ثم قال على ملأ من أصحابه :
" ويح ابن سمية ، تقتله الفئة الباغية "
وتتكرر النبوءة حين يسقط الجدار على رأس عمار فيظن بعض إخوانه أنه مات ،
فيذهب الى الرسول صلى الله عليه وسلم ينعاه ، فيقول الرسول صلى الله عليه سلم بطمأنينة وثقة :
" ما مات عمار ، تقتل عمارا الفئة الباغية "
قتال الإنس والجن
قال عمار بن ياسر رضي الله عنه :
( قد قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنس والجن )
فقيل له : ما هذا ؟ قاتلت الإنس فكيف قاتلت الجن ؟ قال :
( نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فأخذت قِربتي ، ودلوي لأستقي ،
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أما أنه سيأتيك آت يمنعك من الماء "
فلما كنت على رأس البئر إذا رجل أسود كأنه مرس فقال :
لا والله لا تستقي منها ذنوبا واحدا
فأخذته فصرعته ، ثم أخذت حجرا فكسـرت به أنفه ووجهـه ، ثم ملأت قربتـي
فأتيت بها رسـول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
" هل أتاك على الماء من أحد ؟ "
فقلت : ( عبد أسود )
فقال : " ماصنعت به ؟ "
فأخبرته فقال : " أتدري من هو ؟ "
قلت : ( لا )
قال : " ذاك الشيطان ، جاء يمنعك من الماء !! "
يوم اليمامة
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واصل عمار تألقه في مواجهة جيوش
الردة والفرس والروم ، وكان دوما في الصفوف الأولى ، وفي يوم اليمامة انطلق
البطل في استبسـال عاصف ، وإذا يرى فتـور المسلمين يرسل بين صفوفـهم صياحه
المزلزل فيندفعون كالسهام ، يقول عبـد الله بن عمـر رضي الله عنهما :
( رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخـرة ، وقد أشرف يصيح :
( يا معشر المسلمين أمن الجنة تفـرون ؟ أنا عمار بن ياسر هلموا إلي )
فنظرت إليه فإذا أذنه مقطوعة تتأرجح ، وهو يقاتل أشد القتال )
ولاية الكوفة
لفضائله رضي الله عنه سارع عمر بن الخطاب رضي الله عنه واختاره واليا للكوفة
وجعل ابن مسعود رضي الله عنه معه على بيت المال ، وكتب الى أهلها مبشرا :
( إني أبعث إليكم عمار بن ياسر أميرا ، وابن مسعود معلما ووزيرا ، وإنهما لمن
النجباء من أصحاب محمد ومن أهل بدر )
يقول ابن أبي الهذيل وهو من معاصري عمار رضي الله عنه في الكوفـة :
رأيت عمار بن ياسر وهو أميـر الكوفة يشتري من قِثائها ، ثم يربطها بحبـل
ويحملها فوق ظهـره ويمضي بها الى داره ، كما ناداه أحد العامة يوما : يا أجدع الأذن
فيجيبه الأمير :
( خير أذني سببت ، لقد أصيبت في سبيل الله )
عمار والفتنة
وكلما كانت الأيام تمر، كان هو يكثر من لهجه وتعوذه ، كأنما كان قلبه الصافي
يحس الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه.
وحين وقع الخطر ونشبت الفتنة، كان ابن سمية يعرف مكانه فوقف يوم صفين
حاملا سيفه وهو ابن الثالثة والتسعين كما قلنا ليناصر به حقا من يؤمن بوجوب مناصرته.
ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائلا :
( ايها الناس : سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يثأرون لعثمان ،
ووالله ما قصدهم الأخذ بثأره، ولكنهم ذاقوا الدنيا، واستمرءوها ، وعلموا أن
الحق يحول بينهم وبين ما يتمرغون فيه من شهواتهم ودنياهم.
وما كان لهؤلاء سابقة في الاسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم ، ولا الولاية
عليهم، ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على اتباع الحق.
وانهم ليخادعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان وما يريدون الا أن يكونواجبابرة وملوكا )
ثم أخذ الراية بيده ، ورفعها فوق الرؤوس عالية خافقة ، وصاح في الناس قائلا :
( والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وهأنذا أقاتل بها اليوم والذي نفسي بيده لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر ،
لعلمت أننا على الحق ، وأنهم على الباطل )
ولقد تبع الناس عمارا ، وآمنوا بصدق كلماته وقد كانت نبوءة رسول الله صلى الله
عليه وسلم تتألق أمام عينيه بحروف كبيرة :
" تقتل عمار الفئة الباغية "
من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة :
( اليوم القى الأحبة محمدا وصحبه )
كان ابن الثالثة والتسعين ، يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة كان يلقن
الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحق ، ويترك لها آخر مواقفه
العظيمة، الشريفة المعلمة.
ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمار رضي الله عنه ما استطاعوا ، حتى لا تقتله
سيوفهم فيتبين للناس أنهم الفئة الباغية..
بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد ، أفقدتهم صوابهم ، فأخذ بعض
جنود معاوية يتحينون الفرصة لاصابته ، حتى اذا تمكنوا منه أصابوه.
الشهيد
حمل علي عمارا رضي الله عنهما الى حيث صلى عليه والمسلمـون معه ، ثم دفنه
في ثيابه ، ووقف المسلمون على قبـره يعجبون ، فقبل قليـل كان يغـرد :
( اليوم ألقى الأحبة محمدا وصحبه )
أكان معهم اليوم على موعد يعرفه ، وميقات ينتظره...؟؟
وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون...قال أحدهم لصاحبه :
أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينةونحن جالسون مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه وقال :
" اشتاقت الجنة لعمار "
قال له صاحبه نعم ، ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال
اذن فالجنة كانت مشتاقة لعمار..
واذن ، فقد طال شوقها اليه ، وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته ، وينجز
آخر واجباته .. ولقد أداها في ذمة ، وأنجزها في غبطة..
أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟
بلى آن له أن يبلي النداء.. فما جزاء الاحسان إلا الاحسان..
وهكذا ألقى رمحه ومضى ..
وحين كان تراب قبره يسوى بيد أصحابه فوق جثمانه ، كانت روحه تعانق
مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق، التي طال شوقها لعمار...