خباب بن الأرت أستاذ فن الفداء
خباب بن الأرت بن جندلة التميمي وكنيته أبو يحيى وقيل أبو عبد الله
صحابي من السابقين إلى الإسلام ، فأسلم سادس ستة ، وهو أول من
أظهر إسلامه ، وكان قد سُبي في الجاهليـة ، فبيع في مكة ثم حالف
بني زُهرة ، وأسلم وكان من المستضعفين .
إسلامه
خرج نفر من القرشيين، يغدون الخطى، ميممين شطر دار خباب ليتسلموا منه
سيوفهم التي تعاقدوا معه على صنعها..
وقد كان خباب رضي الله عنه سيافا، يصنع السيوف ويبيعها لأهل مكة، ويرسل بها إلى الأسواق..
وعلى غير عادة خباب رضي الله عنه الذي لا يكاد يفارق بيته وعمله، لم
يجده ذلك النفر من قريش فجلسوا ينتظرونه..
وبعد حين طويل جاء خباب رضي الله عنه على وجهه علامة استفهام مضيئة،
وفي عينيه دموع مغتبطة ، وحيا ضيوفه وجلس..
وسألوه عجلين : هل أتممت صنع السيوف يا خباب ؟
وجفت دموع خباب رضي الله عنه ، وحل مكانها في عينيه سرور متألق،
وقال وكأنه يناجي نفسه : ( إن أمره لعجب )
وعاد القوم يسألونه : أي أمر يا رجل ؟
نسألك عن سيوفنا، هل أتممت صنعها ؟
ويستوعبهم خباب رضي الله عنه بنظراته الشاردة الحالمة ..
ويقول : هل رأيتموه..؟ هل سمعتم كلامه..؟
وينظر بعضهم لبعض في دهشة وعجب ، ويعود أحدهم فيسأله
في خبث : هل رأيته أنت يا خباب ؟
ويسخر خباب رضي الله عنه من مكر صاحبه، فيرد عليه السؤال قائلا : من تعني ؟
ويجيب الرجل في غيظ : أعني الذي تعنيه ؟
ويجيب خباب رضي الله عنه بعد إذ أراهم أنه أبعد منالا من أن
يستدرج ، وأنه اعترف بإيمانه الآن أمامهم، فليس لأنهم خدعوه
عن نفسه، واستدرجوا لسانه، بل لأنه رأى الحق وعانقه، وقرر أن يصدع به ويجهر..
فأجابهم قائلا وهو هائم في نشوته وغبطة روحه :
( أجل رأيته، وسمعته ، رأيت الحق يتفجر من جوانبه، والنور يتلألأ بين ثناياه )
وبدأ عملاؤه القرشيون يفهمون، فصاح به أحدهم :
من هذا الذي تتحدث عنه يا عبد أم أنمار ؟
وأجاب خباب رضي الله عنه في هدوء القديسين :
( ومن سواه، يا أخا العرب من سواه في قومك، من يتفجر من جوانبه
الحق، ويخرج النور بين ثناياه ؟ )
وصاح آخر وهب مذعورا: أراك تعني محمدا.
وهز خباب رضي الله عنه رأسه المفعم بالغبطة، وقال:
( نعم انه هو رسول الله إلينا، ليخرجنا من الظلمات إلى النور )
ولا يدري خباب رضي الله عنه ماذا قال بعد هذه الكلمات، ولا ماذا
قيل له ، كل ما يذكره أنه أفاق من غيبوبته بعد ساعات طويلة
ليرى زواره قد انفضوا ، وجسمه وعظامه تعاني رضوضا وآلاما، ودمه النازف يضمخ ثوبه وجسده.
وحدقت عيناه الواسعتان فيما حوله ، وكان المكان أضيق من أن يتسع
لنظراتهما النافذة، فتحمل على آلامه، ونهض شطر الفضاء وأمام باب
داره وقف متوكئا على جدارها، وانطلقت عيناه الذكيتان في رحلة طويلة
تحدقان في الأفق، وتدوران ذات اليمين وذات الشمال ، انهما لا تقفان
عند الأبعاد المألوفة للناس.. انهما تبحثان عن البعد المفقود...
أجل تبحثان عن البعد المفقود في حياته، وفي حياة الناس الذين معه في مكة، والناس في كل مكان وزمان..
ترى هل يكون الحديث الذي سمعه من محمد عليه الصلاة والسلام اليوم،
هو النور الذي يهدي إلى ذلك البعد المفقود في حياة البشر كافة ؟
واستغرق خباب رضي الله عنه في تأملات سامية، وتفكير عميق..
ثم عاد إلى داخل داره.. عاد يضمد جراح جسده، ويهيئه لاستقبال تعذيب جديد، وآلام جديدة.
ومن ذلك اليوم أخذ خباب رضي الله عنه مكانه العالي بين المعذبين والمضطهدين..
أخذ مكانه العالي بين الذين وقفوا برغم فقرهم، وضعفهم يواجهون
كبرياء قريش وعنفها وجنونها..
أخذ مكانه العالي بين الذين غرسوا في قلوبهم سارية الراية التي أخذت
تخفق في الأفق الرحيب ناعية عصر الوثنية، والقيصرية..
مبشرة بأيام المستضعفين والكادحين، الذين سيقفون تحت ظل هذه الراية
سواسية مع أولئك الذين استغلوهم من قبل، وأذاقوهم الحرمان والعذاب..
وفي استبسال عظيم، حمل خباب رضي الله عنه تبعاته كرائد.. يقول الشعبي :
( لقد صبر خباب، ولم تلن له أيدي الكفار قناة، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حتى ذهب لحمه )
الاضطهاد و الصبر
كان حظ خباب رضي الله عنه من العذاب كبيرا، ولكن مقاومته وصبره كانا أكبر من العذاب..
لقد حول كفار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل خباب والذي كان يصنع
منه السيوف.. حولوه كله إلى قيود وسلاسل، كان يحمى عليها في النار
حتى تستعر وتتوهج، ثم يطوق بها جسده ويداه وقدماه..
ولكنه صبر واحتسب ، فها هو يحدث :
( شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببرد له في ظل
الكعبة ، فقلنا : يا رسول الله.. ألا تستنصر لنا )
أي تسأل الله لنا النصر والعافية...
فجلس صلى الله عليه وسلم، وقد احمر وجهه وقال :
" قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل، فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بمنشار،
فيجعل فوق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمن الله هذا الأمر حتى
يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخشى الله الله عز وجل، والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون "
سمع خباب رضي الله عنه ورفاقه هذه الكلمات، فازداد ايمانهم واصرارهم
وقرروا أن يري كل منهم ربه ورسوله ما يحبان من تصميم وصبر، وتضحية.
أم أنمار
خاض خباب معركة الهول صابرا، صامدا، محتسبا ، واستنجد القرشيون
أم أنمار سيدة خباب التي كان عبدا لها قبل أن تعتقه، فأقبلت واشتركت في حملة تعذيبه..
وكانت تأخذ الحديد المحمى الملتهب، وتضعه فوق رأسه ونافوخه، وخباب
رضي الله عنه يتلوى من الألم، لكنه يكظم أنفاسه، حتى لا تخرج منه زفرة ترضي غرور جلاديه.
ومر به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، والحديد المحمى فوق رأسه
يلهبه ويشويه، فطار قلبه حنانا وأسى، ولكن ماذا يملك عليه الصلاة
والسلام يومها لخباب .. لا شيء الا أن يثبته ويدعو له..
هنالك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم كفيه المبسوطتين الى السماء، وقال : " اللهم أنصر خبابا "
ويشاء الله ألا تمضي سوى أيام قليلة حتى ينزل بأم أنمار قصاص عاجل،
كأنما جعله القدر نذيرا لها ولغبرها من الجلادين، ذلك أنها أصيبت بسعار
عصيب وغريب جعلها كما يقول المؤرخون تعوي مثل الكلاب..
وقيل لها يومئذ لا علاج سوى أن يكوى رأسها بالنار..
وهكذا شهد رأسها العنيد سطوة الحديد المحمى يصبحه ويمسيه.. كانت قريش تقاوم الايمان بالعذاب..
وكان المؤمنون يقاومون العذاب بالتضحية..
وكان خباب رضي الله عنه واحدا من أولئك الذين اصطفتهم المقادير
لتجعل منهم أساتذة في فن التضحية والفداء..
خدمة الدين
مضى خباب رضي الله عنه ينفق وقته وحياته في خدمة الدين الذي خفقت أعلامه..
ولم يكتف رضي الله عنه في أيام الدعوة الأولى بالعبادة والصلاة، بل استثمر
قدرته على التعليم، فكان يغشى بيوت بعض اخوانه من المؤمنين الذين يكتمون
اسلامهم خوفا من بطش قريش، فيقرأ معهم القرآن ويعلمهم اياه..
ولقد نبغ في دراسة القرآن وهو يتنزل آية آية وسورة سورة ، حتى ان
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقراه بقراءة ابن أم عبد"
كان يعتبر خبابا رضي الله عنه مرجعا فيما يتصل بالقرآن حفظا ودراسة
وقد كان يدرس القرآن لـ فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد
رضي الله عنهما عندما فاجأهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه متقلدا سيفه
الذي خرج به ليصفي حسابه مع الاسلام ورسوله، لكنه لم يكد يتلو القرآن
المسطور في الصحيفة التي كان يعلم منها خباب رضي الله عنه ، حتى صاح
صيحته المباركة : ( دلوني على محمد )
وسمع خباب رضي الله عنه كلمات عمر رضي الله عنه هذه، فخرج من مخبئه
الذي كان قد توارى فيه وصاح :
( يا عمر.. والله اني لأرجوا أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه
وسلم، فاني سمعته بالأمس يقول :
اللهم أعز الاسلام بأحب الرجلين اليك أبي الحكم بن هشام، أوعمربن الخطاب )
وسأله عمر رضي الله عنه من فوره : وأين أجد الرسول الآن يا خباب ؟
فأجابه رضي الله عنه : (عند الصفا، في دار الأرقم بن أبي الأرقم )
ومضى عمر رضي الله عنه الى حظوظه الوافية، ومصيره العظيم.
الدَين
كان خباب رضي الله عنه رجلا قينا ، وكان له على العاص بن وائل دين،
فأتاه يتقاضاه ، فقال العاص : لن أقضيك حتى تكفر بمحمد
فقال خباب رضي الله عنه : ( لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث )
قال العاص : إني لمبعوث من بعد الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد ؟
فنزل فيه قوله تعالى :
(( أفَرَأيْتَ الذَي كَفَرَ بِآياتنا وقال لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الغَيْبَ أمِ اتَّخَذَ
عند الرحمنِ عَهْداً * كلاّ سَنَكتُبُ ما يقول ونَمُدُّ له من العذاب مَدّا * َنَرِثُهُ ما يقولُ ويَأتينا فرداً ))
جهاده
شهد خباب بن الأرت رضي الله عنه جميع الغزوات مع الرسول صلى الله عليه
وسلم وعاش عمره حفيظا على إيمانه ويقينه .
يقول خباب رضي الله عنه :
( لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أملك دينارا ولا درهما ،
وإن في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف واف ، ولقد خشيت الله أن
تكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا )
في عهد الخلافة
عندما فاض بيت مال المسلمين بالمال أيام عمر وعثمان رضي الله عنهما ،
كان لخباب رضي الله عنه راتب كبير بوصفه من المهاجرين السابقين إلى
الإسلام ، فبنى دارا بالكوفة ، وكان يضع ماله في مكان من البيت يعلمه
أصحابه ورواده ، وكل من احتاج يذهب ويأخذ منه .
وفاته
قال لخباب رضي الله عنه بعض عواده وهو في مرض الموت :
ابشر يا أبا عبدالله ، فإنك ملاق إخوانك غدا
فأجابهم رضي الله عنه وهو يبكي :
( أما انه ليس بي جزع ولكنكم ذكرتموني أقواما، واخوانا، مضوا بأجورهم
كلها ام ينالوا من الدنيا شيئا ، وانا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما لم نجد له موضعا الا التراب )
وأشار الى داره المتواضعة التي بناها ، ثم أشار مرة أخرى الى المكان الذي فيه أمواله وقال :
( والله ما شددت عليها من خيط ، ولا منعتها من سائل )
ثم التفت الى كفنه الذي كان قد أعد له، وكان يراه ترفا وإسرافا وقال ودموعه تسيل :
( أنظروا هذا كفني ، لكن حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجد له
كفن يوم استشهد الا بردة ملحاء ذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، واذا
جعلت على قدميه قلصت عن رأسه )
ومات خباب رضي الله عنه في السنة السابعة والثلاثين للهجرة ..
مات أستاذ صناعة السيوف في الجاهلية..
مات أستاذ صناعة التضحية والفداء في الاسلام..
مات واحد من الأبناء البررة لأيام الوحي وجيل التضحية...
مات الرجل الذي كان أحد الجماعة الذين نزل القرآن يدافع عنهم، ويحييهم،
عندما طلب بعض السادة من قريش أن يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوما، وللفقراء من أمثال خباب، وصهيب، وبلال يوما آخر ...
فاذا القرآن العظيم يختص رجال الله هؤلاء في تمجيد لهم وتكريم، وتهل
آياته قائلة للرسول صلى الله عليه وسلم :
(( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه * ما عليك من
حسابهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين * وكذلك فتنا بعضهم ببعض
ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ))
وهكذا ، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يراهم بعد نزول الآيات حتى
يبالغ في اكرامهم فيفرش لهم رداءه، ويربت على أكتافهم، ويقول لهم :
" أهلا بمن أوصاني بهم ربي"
ولعل خير ما نودعه به، كلمات الامام علي كرم الله وجهه حين كان عائدا
من معركة صفين، فوقعت عيناه على قبر غض رطيب، فسأل : ( قبر من هذا..؟ )
فأجابوه : انه قبر خباب.
فتملاه خاشعا آسيا، وقال :
( رحم الله خبابا.. لقد أسلم راغبا... وهاجر طائعا.. وعاش مجاهدا ..
وابتلي في جسمه .. ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا )
ثم دنا من قبورهم فقال :
( السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، أنتم لنا سلف فارط ،
ونحن لكم تبع عما قليل لاحِق ، اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز بعفوك عنا
وعنهم ، طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ، وأرضى الله عز وجل )
خباب بن الأرت بن جندلة التميمي وكنيته أبو يحيى وقيل أبو عبد الله
صحابي من السابقين إلى الإسلام ، فأسلم سادس ستة ، وهو أول من
أظهر إسلامه ، وكان قد سُبي في الجاهليـة ، فبيع في مكة ثم حالف
بني زُهرة ، وأسلم وكان من المستضعفين .
إسلامه
خرج نفر من القرشيين، يغدون الخطى، ميممين شطر دار خباب ليتسلموا منه
سيوفهم التي تعاقدوا معه على صنعها..
وقد كان خباب رضي الله عنه سيافا، يصنع السيوف ويبيعها لأهل مكة، ويرسل بها إلى الأسواق..
وعلى غير عادة خباب رضي الله عنه الذي لا يكاد يفارق بيته وعمله، لم
يجده ذلك النفر من قريش فجلسوا ينتظرونه..
وبعد حين طويل جاء خباب رضي الله عنه على وجهه علامة استفهام مضيئة،
وفي عينيه دموع مغتبطة ، وحيا ضيوفه وجلس..
وسألوه عجلين : هل أتممت صنع السيوف يا خباب ؟
وجفت دموع خباب رضي الله عنه ، وحل مكانها في عينيه سرور متألق،
وقال وكأنه يناجي نفسه : ( إن أمره لعجب )
وعاد القوم يسألونه : أي أمر يا رجل ؟
نسألك عن سيوفنا، هل أتممت صنعها ؟
ويستوعبهم خباب رضي الله عنه بنظراته الشاردة الحالمة ..
ويقول : هل رأيتموه..؟ هل سمعتم كلامه..؟
وينظر بعضهم لبعض في دهشة وعجب ، ويعود أحدهم فيسأله
في خبث : هل رأيته أنت يا خباب ؟
ويسخر خباب رضي الله عنه من مكر صاحبه، فيرد عليه السؤال قائلا : من تعني ؟
ويجيب الرجل في غيظ : أعني الذي تعنيه ؟
ويجيب خباب رضي الله عنه بعد إذ أراهم أنه أبعد منالا من أن
يستدرج ، وأنه اعترف بإيمانه الآن أمامهم، فليس لأنهم خدعوه
عن نفسه، واستدرجوا لسانه، بل لأنه رأى الحق وعانقه، وقرر أن يصدع به ويجهر..
فأجابهم قائلا وهو هائم في نشوته وغبطة روحه :
( أجل رأيته، وسمعته ، رأيت الحق يتفجر من جوانبه، والنور يتلألأ بين ثناياه )
وبدأ عملاؤه القرشيون يفهمون، فصاح به أحدهم :
من هذا الذي تتحدث عنه يا عبد أم أنمار ؟
وأجاب خباب رضي الله عنه في هدوء القديسين :
( ومن سواه، يا أخا العرب من سواه في قومك، من يتفجر من جوانبه
الحق، ويخرج النور بين ثناياه ؟ )
وصاح آخر وهب مذعورا: أراك تعني محمدا.
وهز خباب رضي الله عنه رأسه المفعم بالغبطة، وقال:
( نعم انه هو رسول الله إلينا، ليخرجنا من الظلمات إلى النور )
ولا يدري خباب رضي الله عنه ماذا قال بعد هذه الكلمات، ولا ماذا
قيل له ، كل ما يذكره أنه أفاق من غيبوبته بعد ساعات طويلة
ليرى زواره قد انفضوا ، وجسمه وعظامه تعاني رضوضا وآلاما، ودمه النازف يضمخ ثوبه وجسده.
وحدقت عيناه الواسعتان فيما حوله ، وكان المكان أضيق من أن يتسع
لنظراتهما النافذة، فتحمل على آلامه، ونهض شطر الفضاء وأمام باب
داره وقف متوكئا على جدارها، وانطلقت عيناه الذكيتان في رحلة طويلة
تحدقان في الأفق، وتدوران ذات اليمين وذات الشمال ، انهما لا تقفان
عند الأبعاد المألوفة للناس.. انهما تبحثان عن البعد المفقود...
أجل تبحثان عن البعد المفقود في حياته، وفي حياة الناس الذين معه في مكة، والناس في كل مكان وزمان..
ترى هل يكون الحديث الذي سمعه من محمد عليه الصلاة والسلام اليوم،
هو النور الذي يهدي إلى ذلك البعد المفقود في حياة البشر كافة ؟
واستغرق خباب رضي الله عنه في تأملات سامية، وتفكير عميق..
ثم عاد إلى داخل داره.. عاد يضمد جراح جسده، ويهيئه لاستقبال تعذيب جديد، وآلام جديدة.
ومن ذلك اليوم أخذ خباب رضي الله عنه مكانه العالي بين المعذبين والمضطهدين..
أخذ مكانه العالي بين الذين وقفوا برغم فقرهم، وضعفهم يواجهون
كبرياء قريش وعنفها وجنونها..
أخذ مكانه العالي بين الذين غرسوا في قلوبهم سارية الراية التي أخذت
تخفق في الأفق الرحيب ناعية عصر الوثنية، والقيصرية..
مبشرة بأيام المستضعفين والكادحين، الذين سيقفون تحت ظل هذه الراية
سواسية مع أولئك الذين استغلوهم من قبل، وأذاقوهم الحرمان والعذاب..
وفي استبسال عظيم، حمل خباب رضي الله عنه تبعاته كرائد.. يقول الشعبي :
( لقد صبر خباب، ولم تلن له أيدي الكفار قناة، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حتى ذهب لحمه )
الاضطهاد و الصبر
كان حظ خباب رضي الله عنه من العذاب كبيرا، ولكن مقاومته وصبره كانا أكبر من العذاب..
لقد حول كفار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل خباب والذي كان يصنع
منه السيوف.. حولوه كله إلى قيود وسلاسل، كان يحمى عليها في النار
حتى تستعر وتتوهج، ثم يطوق بها جسده ويداه وقدماه..
ولكنه صبر واحتسب ، فها هو يحدث :
( شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببرد له في ظل
الكعبة ، فقلنا : يا رسول الله.. ألا تستنصر لنا )
أي تسأل الله لنا النصر والعافية...
فجلس صلى الله عليه وسلم، وقد احمر وجهه وقال :
" قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل، فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بمنشار،
فيجعل فوق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمن الله هذا الأمر حتى
يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخشى الله الله عز وجل، والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون "
سمع خباب رضي الله عنه ورفاقه هذه الكلمات، فازداد ايمانهم واصرارهم
وقرروا أن يري كل منهم ربه ورسوله ما يحبان من تصميم وصبر، وتضحية.
أم أنمار
خاض خباب معركة الهول صابرا، صامدا، محتسبا ، واستنجد القرشيون
أم أنمار سيدة خباب التي كان عبدا لها قبل أن تعتقه، فأقبلت واشتركت في حملة تعذيبه..
وكانت تأخذ الحديد المحمى الملتهب، وتضعه فوق رأسه ونافوخه، وخباب
رضي الله عنه يتلوى من الألم، لكنه يكظم أنفاسه، حتى لا تخرج منه زفرة ترضي غرور جلاديه.
ومر به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، والحديد المحمى فوق رأسه
يلهبه ويشويه، فطار قلبه حنانا وأسى، ولكن ماذا يملك عليه الصلاة
والسلام يومها لخباب .. لا شيء الا أن يثبته ويدعو له..
هنالك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم كفيه المبسوطتين الى السماء، وقال : " اللهم أنصر خبابا "
ويشاء الله ألا تمضي سوى أيام قليلة حتى ينزل بأم أنمار قصاص عاجل،
كأنما جعله القدر نذيرا لها ولغبرها من الجلادين، ذلك أنها أصيبت بسعار
عصيب وغريب جعلها كما يقول المؤرخون تعوي مثل الكلاب..
وقيل لها يومئذ لا علاج سوى أن يكوى رأسها بالنار..
وهكذا شهد رأسها العنيد سطوة الحديد المحمى يصبحه ويمسيه.. كانت قريش تقاوم الايمان بالعذاب..
وكان المؤمنون يقاومون العذاب بالتضحية..
وكان خباب رضي الله عنه واحدا من أولئك الذين اصطفتهم المقادير
لتجعل منهم أساتذة في فن التضحية والفداء..
خدمة الدين
مضى خباب رضي الله عنه ينفق وقته وحياته في خدمة الدين الذي خفقت أعلامه..
ولم يكتف رضي الله عنه في أيام الدعوة الأولى بالعبادة والصلاة، بل استثمر
قدرته على التعليم، فكان يغشى بيوت بعض اخوانه من المؤمنين الذين يكتمون
اسلامهم خوفا من بطش قريش، فيقرأ معهم القرآن ويعلمهم اياه..
ولقد نبغ في دراسة القرآن وهو يتنزل آية آية وسورة سورة ، حتى ان
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقراه بقراءة ابن أم عبد"
كان يعتبر خبابا رضي الله عنه مرجعا فيما يتصل بالقرآن حفظا ودراسة
وقد كان يدرس القرآن لـ فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد
رضي الله عنهما عندما فاجأهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه متقلدا سيفه
الذي خرج به ليصفي حسابه مع الاسلام ورسوله، لكنه لم يكد يتلو القرآن
المسطور في الصحيفة التي كان يعلم منها خباب رضي الله عنه ، حتى صاح
صيحته المباركة : ( دلوني على محمد )
وسمع خباب رضي الله عنه كلمات عمر رضي الله عنه هذه، فخرج من مخبئه
الذي كان قد توارى فيه وصاح :
( يا عمر.. والله اني لأرجوا أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه
وسلم، فاني سمعته بالأمس يقول :
اللهم أعز الاسلام بأحب الرجلين اليك أبي الحكم بن هشام، أوعمربن الخطاب )
وسأله عمر رضي الله عنه من فوره : وأين أجد الرسول الآن يا خباب ؟
فأجابه رضي الله عنه : (عند الصفا، في دار الأرقم بن أبي الأرقم )
ومضى عمر رضي الله عنه الى حظوظه الوافية، ومصيره العظيم.
الدَين
كان خباب رضي الله عنه رجلا قينا ، وكان له على العاص بن وائل دين،
فأتاه يتقاضاه ، فقال العاص : لن أقضيك حتى تكفر بمحمد
فقال خباب رضي الله عنه : ( لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث )
قال العاص : إني لمبعوث من بعد الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد ؟
فنزل فيه قوله تعالى :
(( أفَرَأيْتَ الذَي كَفَرَ بِآياتنا وقال لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الغَيْبَ أمِ اتَّخَذَ
عند الرحمنِ عَهْداً * كلاّ سَنَكتُبُ ما يقول ونَمُدُّ له من العذاب مَدّا * َنَرِثُهُ ما يقولُ ويَأتينا فرداً ))
جهاده
شهد خباب بن الأرت رضي الله عنه جميع الغزوات مع الرسول صلى الله عليه
وسلم وعاش عمره حفيظا على إيمانه ويقينه .
يقول خباب رضي الله عنه :
( لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أملك دينارا ولا درهما ،
وإن في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف واف ، ولقد خشيت الله أن
تكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا )
في عهد الخلافة
عندما فاض بيت مال المسلمين بالمال أيام عمر وعثمان رضي الله عنهما ،
كان لخباب رضي الله عنه راتب كبير بوصفه من المهاجرين السابقين إلى
الإسلام ، فبنى دارا بالكوفة ، وكان يضع ماله في مكان من البيت يعلمه
أصحابه ورواده ، وكل من احتاج يذهب ويأخذ منه .
وفاته
قال لخباب رضي الله عنه بعض عواده وهو في مرض الموت :
ابشر يا أبا عبدالله ، فإنك ملاق إخوانك غدا
فأجابهم رضي الله عنه وهو يبكي :
( أما انه ليس بي جزع ولكنكم ذكرتموني أقواما، واخوانا، مضوا بأجورهم
كلها ام ينالوا من الدنيا شيئا ، وانا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما لم نجد له موضعا الا التراب )
وأشار الى داره المتواضعة التي بناها ، ثم أشار مرة أخرى الى المكان الذي فيه أمواله وقال :
( والله ما شددت عليها من خيط ، ولا منعتها من سائل )
ثم التفت الى كفنه الذي كان قد أعد له، وكان يراه ترفا وإسرافا وقال ودموعه تسيل :
( أنظروا هذا كفني ، لكن حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجد له
كفن يوم استشهد الا بردة ملحاء ذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، واذا
جعلت على قدميه قلصت عن رأسه )
ومات خباب رضي الله عنه في السنة السابعة والثلاثين للهجرة ..
مات أستاذ صناعة السيوف في الجاهلية..
مات أستاذ صناعة التضحية والفداء في الاسلام..
مات واحد من الأبناء البررة لأيام الوحي وجيل التضحية...
مات الرجل الذي كان أحد الجماعة الذين نزل القرآن يدافع عنهم، ويحييهم،
عندما طلب بعض السادة من قريش أن يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوما، وللفقراء من أمثال خباب، وصهيب، وبلال يوما آخر ...
فاذا القرآن العظيم يختص رجال الله هؤلاء في تمجيد لهم وتكريم، وتهل
آياته قائلة للرسول صلى الله عليه وسلم :
(( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه * ما عليك من
حسابهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين * وكذلك فتنا بعضهم ببعض
ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ))
وهكذا ، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يراهم بعد نزول الآيات حتى
يبالغ في اكرامهم فيفرش لهم رداءه، ويربت على أكتافهم، ويقول لهم :
" أهلا بمن أوصاني بهم ربي"
ولعل خير ما نودعه به، كلمات الامام علي كرم الله وجهه حين كان عائدا
من معركة صفين، فوقعت عيناه على قبر غض رطيب، فسأل : ( قبر من هذا..؟ )
فأجابوه : انه قبر خباب.
فتملاه خاشعا آسيا، وقال :
( رحم الله خبابا.. لقد أسلم راغبا... وهاجر طائعا.. وعاش مجاهدا ..
وابتلي في جسمه .. ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا )
ثم دنا من قبورهم فقال :
( السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، أنتم لنا سلف فارط ،
ونحن لكم تبع عما قليل لاحِق ، اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز بعفوك عنا
وعنهم ، طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ، وأرضى الله عز وجل )