جعفر بن أبي طالب ذي الجناحين
هو جعفر بن أبي طالب ، أبو عبد الله ، ابن عم رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخو
علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ويكبر بعشر سنين ..
امتلك روائع الحسن، والفضيلة، والعظمة، والحلم ، والبر، والتواضع ، والتقى ، والطهر ،
والعفه و لاعجب في ذلك ، فأنه كان أشبه الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم خلقا، وخُلقا..
أنه طائر الجنة الغريد، عظيم من عظماء الرعيل الأول الذين تربوا في المدرسة المحمدية
أسلم قبل دخول النبـي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ، آخذا مكانه العالي بين المؤمنين
المبكرين بعد واحد وثلاثين شخص وأسلمـت معه في نفس اليوم زوجته أسماء بنت عميـس
رضي الله عنهما ، وحملا نصيبهما من الأذى والاضطهاد في شجاعة وغبطة فلما أذن
الرسـول صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة الى الحبشـة خرج جعفر وزوجـه رضي
الله عنهما حيث لبثا بها سنين عدة ، رزقـا خلالها بأولادهما الثلاثة .
جعفر في الحبشة
وفي الحبشة كان جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه المتحدث اللبق، الموفق باسم
الاسلام ورسوله ، وذلك أن الله أنعم عليه فيما أنعم ، بذكاء القلب ، واشراق العقل،
وفطنة النفس، وفصاحة اللسان ، ولئن كان يوم مؤتة الذي سيقاتل فيه فيما بعد حتى
يستشهد أروع أيامه وأمجاده وأخلدها ، فان يوم المحاورة التي أجراها أمام النجاشي
بالحبشة، لن يقل روعة ولا بهاء، ولا مجدا ، لقد كان يوما فذا، ومشهدا عجبا...
وذلك أن قريشا لم يهدئ من ثورتها، ولم يذهب من غيظها هجرة المسلمين الى الحبشة،
بل خشيت أن يقوى هناك بأسهم، ويتكاثر طمعهم ، وحتى اذا لم تواتهم فرصة التكاثر
والقوة، فقد عز على كبريائها أن ينجو هؤلاء من نقمتها، ويفلتوا من قبضتها .
هنالك قرر ساداتها ارسال مبعوثين الى النجاشي يحملان هدايا قريش النفيسة، ويحملان
رجاءهما في أن يخرج هؤلاء الذين جاؤوا اليها لائذين ومستجيرين.
وكان هذان المبعوثان هما :
عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وكانا لم يسلما بعد.
وكان النجاشي رجلا يحمل ايمانا مستنيرا ، وكان في قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافية
واعية، بعيدة عن الانحراف، نائية عن التعصب والانغلاق ، ومن أجل هذا، اختار الرسول
صلى الله عليه وسلم بلاده دار هجرة لأصحابه.
ومن أجل هذا، خافت قريش ألا تبلغ لديه ما تريد فحملت مبعوثيها هدايا ضخمة للأساقفة،
وكبار رجال الكنيسة هناك ، وأوصى زعماء قريش مبعوثيها ألا يقابلا النجاشي حتى
يعطيا الهدايا للبطارقة أولا، وحتى يقنعاهم بوجهة نظرهما، ليكونوا لهم عونا عند النجاشي .
وحط الرسولان رحالهما بالحبشة ، ودفعوا لكل بطريق بهديته وقالوا له ما يريدون من
كيد بالمسلمين ، ثم قدما الى النجاشي هداياه وطلبا الأذن برؤياه .
وفي وقار مهيب ، وتواضع جليل ، جلس النجاشي على كرسيه العالي ، تحف به الأساقفة
ورجال الحاشية ، وجلس أمامه في البهو الفسيح ، المسلمون المهاجرون، تغشاهم سكينة
الله، وتظلهم رحمته .
ووقف مبعوثا قريش يكرران الاتهام الذي سبق أن ردداه أمام النجاشي حين أذن لهم
بمقابلة خاصة قبل هذ الاجتماع الحاشد الكبير وقالا له :
أيها الملك ، انه قد ضوى الى بلدك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا
في دينك ، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا اليك فيهم أشراف
قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشيرتهم لتردهم اليهم ، فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما
عابوا عليهم وعاتبوهم فيه .
فولى النجاشي وجهه شطر المسلمين، ملقيا عليهم سؤاله :
ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، واستغنيتم به عن ديننا ؟؟
ونهض جعفر رضي الله عنه قائما ، ليؤدي المهمة التي كان المسلمون المهاجرون قد
اختاروه لها ابان تشاورهم ، وقبل مجيئهم الى هذا الاجتماع.
نهض جعفر رضي الله عنه في تؤدة وجلال ، وألقى نظرات محبة على الملك الذي أحسن
جوارهم وقال :
( أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ،
ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله
الينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه ، وأمانته وعفافه ، فدعانا الى الله لنوحده ونعبده،
وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، فعبدنا الله وحده ،
فلم نشرك به شيا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ،
فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا الى عبادة الأوثان ، فخرجنا إلى بلادك ، واخترناك
على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك )
فقال النجاشي : هل معك مما جاء به الله من شيء .
فقال له جعفر رضي الله عنه : ( نعم )
وقرأ عليه من صدر سورة مريم ، فبكى النجاشي وبكت أساقفته ، ثم قال النجاشي :
ان هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ! انطلقا فلا والله لا أسلمهم اليكما ، ولا يكادون
لكن عمرو بن العاص كان داهية واسع الحيلة، لا يتجرع الهزيمة، ولا يذعن لليأس ، وهكذا لم
يكد يعود مع صاحبه الى نزلهما، حتى ذهب يفكر ويدبر، وقال لزميله :
والله لأرجعن للنجاشي غدا، ولآتينه عنهم بما يستأصل خضراءهم
وأجابه صاحبه : لا تفعل ، فان لهم أرحاما، وان كانوا قد خالفونا
قال عمرو : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، كبقية العباد
وفي الغداة سار الى مقابلة الملك، وقال له :
أيها الملك : انهم ليقولون في عيسى قولا عظيما
واضطرب الأساقفة ، واهتاجتهم هذه العبارة القصيرة ، ونادوا بدعوة المسلمين لسؤالهم
عن موقف دينهم من المسيح.
وعلم المسلمون بالمؤامرة الجديدة، فجلسوا يتشاورون ، ثم اتفقوا على أن يقولوا الحق ا
لذي سمعوه من نبيهم عليه الصلاة والسلام، لايحيدون عنه قيد شعرة، وليكن ما يكن..
وانعقد الاجتماع من جديد ، وبدأ النجاشي الحديث سائلا جعفر رضي الله عنه :
ماذا تقولون في عيسى ؟؟
ونهض جعفر رضي الله عنه مرة أخرى كالمنار المضيء وقال :
( نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم فهو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته
ألقاها الى مريم العذراء البتول )
فهتف النجاشي مصدقا ومعلنا أن هذا هو ما قاله المسيح عن نفسه..
لكن صفوف الأساقفة ضجت بما يشبه النكير..
ومضى النجاشي المستنير المؤمن يتابع حديثه قائلا للمسلمين :
اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي، ومن سبكم أو آذاكم، فعليه غرم ما يفعل .
ثم التفت صوب حاشيته، وقال وسبابته تشير الى مبعوثي قريش :
ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه .
وخرج مبعوثا قريش مخذولين، حيث وليا وجهيهما من فورهما شطر مكة عائين اليها ،
وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة، لابثين فيها كما
قالوا : " بخير دار.. مع خير جار.."
حتى يأذن الله لهم بالعودة الى رسولهم واخوانهم وديارهم.
العودة من الحبشة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفل مع المسلمين بفتح خيبر حين طلع عليهم
قادما من الحبشة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومعه من كانوا لا يزالون في الحبشة من المهاجرين..
وأفعم قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بمقدمة غبطة، وسعادة وبشرا ، وعانقه النبي
صلى الله عليه وسلم وهو يقول :
" لا أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر.. أم بقدوم جعفر.."
وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الى مكة، حيث اعتمروا عمرة القضاء،
وعادوا الى المدينة، وقد اكتلأت نفس جعفر رضي الله عنه روعة بما سمع من انباء اخوانه
المؤمنين الذين خاضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر، وأحد وغيرهما من
المشاهد والمغازي ، وفاضت عيناه بالدمع على الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقضوا نحبهم شهداء أبرار..
وطار فؤداه شوقا الى الجنة، وأخذ يتحين فرصة الشهادة ويترقب لحظتها المجيدة..
الشهادة
في غزوة مؤتة في جمادي الأول سنة ثمان كان لجعفر رضي الله عنه موعدا مع الشهادة ،
فقد رأى جعفر في هذه الغزوة فرصة العمر، فاما أن يحقق فيها نصرا كبيرا لدين الله،
واما أن يظفر باستشهاد عظيم في سبيل الله ، وتقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم
يرجوه أن يجعل له في هذه الغزوة مكانا..
كان جعفر رضي الله عنه يعلم علم اليقين أنها ليست نزهة ، بل ولا حربا صغيرة، انما هي
حرب لم يخض الاسلام منها من قبل ، حرب مع جيوش امبراطورية عريضة باذخة، تملك من
العتاد والأعداد، والخبرة والأموال ما لا قبل للعرب ولا للمسلمين به، ومع هذا طار شوقا
اليها، وكان ثالث ثلاثة جعلهم رسول الله قواد الجيش وأمراءه..
وخرج الجيش وخرج جعفر معه ، والتقى الجمعان في يوم رهيب..
وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده عندما بصر جيش الروم ينتظم مائتي ألف
مقاتل، فانه على العكس، أخذته نشوة عارمة اذ احس في أنفه المؤمن العزيز، واعتداد
البطل المقتدر أنه سيقاتل أكفاء له وأندادا..
وما كادت الراية توشك على السقوط من يمين زيد بن حارثة، حتى تلقاها جعفر باليمين
ومضى يقاتل بها في اقدام خارق ، اقدام رجل لا يبحث عن النصر، بل عن الشهادة...
وتكاثر عليه وحوله مقاتلي الروم، ورأى فرسه تعوق حركته فاقتحم عنها فنزل ، وراح
يصوب سيفه ويسدده الى نحور أعدائه كنقمة القدر ، ولمح واحدا من الأعداء يقترب من
فرسه ليعلو ظهرها، فعز عليه أن يمتطي صهوتها هذا الرجس، فبسط نحوها سيفه، وعقرها..
وانطلق وسط الصفوف المتكالبة عليه يدمدم كالاعصار، وصوته يتعالى بهذا الرجزالمتوهج :
يا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة، وبارد شرابها
والروم روم، قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها
علي اذا لاقيتها ضرابها
وأدرك مقاتلو الروم مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل، وكانه جيش ، وأحاطوا به في اصرار
مجنون على قتله ، وحوصر بهم حصارا لا منفذ فيه لنجاة..
وضربوا بالسيوف يمينه، وقبل أن تسقط الراية منها على الأرض تلقاها بشماله ، وضربوها
هي الأخرى، فاحتضن الراية بعضديه ، في هذه اللحظة تركزت كل مسؤوليته في ألا يدع
راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تلامس التراب وهو حي.. فقتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة
وحين تكومت جثته الطاهرة، كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه، ونادت
خفقاتها عبدالله بن رواحة رضي الله عنه فشق الصفوف كالسهم نحوها، واخذها في قوة،
ومضى بها الى مصير عظيم..
الحزن على جعفر
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها :
( لما أتى وفاة جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن )
فعندما أتاه نعي جعفر رضي الله عنه دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على امرأته
أسماء بنت عميس رضي الله عنها وقال لها : " ائتني ببني جعفر "
فأتت بهم فشمهم ودمعت عيناه فقالت :
يا رسول الله بأبي وأمي ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وأصحابـه شيء ؟
فقال : " نعم أصيبـوا هذا اليوم "
فقامت تصيح ، ودخلت فاطمـة وهي تبكي وتقول : واعماه !!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "على مثل جعفر فلتبكِ البواكي "
ورجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال :
" لا تغفلوا آلَ جعفر ، فإنهم قد شُغلوا "
ثم عاد الى مجلسه، وأصحابه حافون به ، ووقف شاعرالاسلام حسان بن ثابت يرثي
جعفر ورفاقه :
غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم
الى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغرّ كضوء البدر من آل هاشم
أبي اذا سيم الظلامة مجسر
فطاعن حتى مال غير موسد
لمعترك فيه القنا يتكسّر
فصار مع المستشهدين ثوابه
جنان، ومتلف الحدائق أخضر
وكنا نرى في جعفر من محمد
وفاء وأمرا حازما حين يأمر
فما زال في الاسلام من آل هاشم
دعائم عز لا يزلن ومفخر
وذهب المساكين جميعهم يبكون أباهم، فقد كان جعفر رضي الله عنه أبا المساكين..
يقول أبو هريرة:
" كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب"...
فضله
- قال أبو هريرة رضي الله عنه :
( ما احتذى النعَال ولا ركب المطَايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر )
- وكان رسول صلى الله عليه وسلم يقول لجعفر رضي الله عنه : " أشبهتَ خلقي وخُلقي "
- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه : " أبا المساكين "
- دخل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في هم شديد بعد استشهاده حتى أتاه جبريل
عليه السلام فأخبره أن الله تعالى قد جعل لجعفر جناحَين مضرجينِ بالدم ، يطير بهما مع الملائكة .
- كما قال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه :
( كنت إذا سألت عليا شيئا فمنعني وقلت له : بحق جعفر .. إلا أعطاني )
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى عبد الله بن جعفررضي الله عنه
قال : ( السلام عليك يا ابن ذي الجناحين )
يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنه :
( كنت مع جعفر في غزوة مؤتة، فالتمسناه، فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين رمية وطعنة )
بضع وتسعون طعنة سيف ورمية رمح..!!
ومع هذا، فهل نال القتلة من روحه ومن مصيره منالا..؟؟
أبدا.. وما كانت سيوفهم ورماحهم سوى جسر عبر عليه الشهيد المجيد الى جوار الله
الأعلى الرحيم، حيث نزل في رحابه مكانا عليا..
انه هنالك في جنان الخلد، يحمل أوسمة المعركة على كل مكان من جسد أنهكته السيوف والرماح..
هو جعفر بن أبي طالب ، أبو عبد الله ، ابن عم رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخو
علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ويكبر بعشر سنين ..
امتلك روائع الحسن، والفضيلة، والعظمة، والحلم ، والبر، والتواضع ، والتقى ، والطهر ،
والعفه و لاعجب في ذلك ، فأنه كان أشبه الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم خلقا، وخُلقا..
أنه طائر الجنة الغريد، عظيم من عظماء الرعيل الأول الذين تربوا في المدرسة المحمدية
أسلم قبل دخول النبـي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ، آخذا مكانه العالي بين المؤمنين
المبكرين بعد واحد وثلاثين شخص وأسلمـت معه في نفس اليوم زوجته أسماء بنت عميـس
رضي الله عنهما ، وحملا نصيبهما من الأذى والاضطهاد في شجاعة وغبطة فلما أذن
الرسـول صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة الى الحبشـة خرج جعفر وزوجـه رضي
الله عنهما حيث لبثا بها سنين عدة ، رزقـا خلالها بأولادهما الثلاثة .
جعفر في الحبشة
وفي الحبشة كان جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه المتحدث اللبق، الموفق باسم
الاسلام ورسوله ، وذلك أن الله أنعم عليه فيما أنعم ، بذكاء القلب ، واشراق العقل،
وفطنة النفس، وفصاحة اللسان ، ولئن كان يوم مؤتة الذي سيقاتل فيه فيما بعد حتى
يستشهد أروع أيامه وأمجاده وأخلدها ، فان يوم المحاورة التي أجراها أمام النجاشي
بالحبشة، لن يقل روعة ولا بهاء، ولا مجدا ، لقد كان يوما فذا، ومشهدا عجبا...
وذلك أن قريشا لم يهدئ من ثورتها، ولم يذهب من غيظها هجرة المسلمين الى الحبشة،
بل خشيت أن يقوى هناك بأسهم، ويتكاثر طمعهم ، وحتى اذا لم تواتهم فرصة التكاثر
والقوة، فقد عز على كبريائها أن ينجو هؤلاء من نقمتها، ويفلتوا من قبضتها .
هنالك قرر ساداتها ارسال مبعوثين الى النجاشي يحملان هدايا قريش النفيسة، ويحملان
رجاءهما في أن يخرج هؤلاء الذين جاؤوا اليها لائذين ومستجيرين.
وكان هذان المبعوثان هما :
عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وكانا لم يسلما بعد.
وكان النجاشي رجلا يحمل ايمانا مستنيرا ، وكان في قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافية
واعية، بعيدة عن الانحراف، نائية عن التعصب والانغلاق ، ومن أجل هذا، اختار الرسول
صلى الله عليه وسلم بلاده دار هجرة لأصحابه.
ومن أجل هذا، خافت قريش ألا تبلغ لديه ما تريد فحملت مبعوثيها هدايا ضخمة للأساقفة،
وكبار رجال الكنيسة هناك ، وأوصى زعماء قريش مبعوثيها ألا يقابلا النجاشي حتى
يعطيا الهدايا للبطارقة أولا، وحتى يقنعاهم بوجهة نظرهما، ليكونوا لهم عونا عند النجاشي .
وحط الرسولان رحالهما بالحبشة ، ودفعوا لكل بطريق بهديته وقالوا له ما يريدون من
كيد بالمسلمين ، ثم قدما الى النجاشي هداياه وطلبا الأذن برؤياه .
وفي وقار مهيب ، وتواضع جليل ، جلس النجاشي على كرسيه العالي ، تحف به الأساقفة
ورجال الحاشية ، وجلس أمامه في البهو الفسيح ، المسلمون المهاجرون، تغشاهم سكينة
الله، وتظلهم رحمته .
ووقف مبعوثا قريش يكرران الاتهام الذي سبق أن ردداه أمام النجاشي حين أذن لهم
بمقابلة خاصة قبل هذ الاجتماع الحاشد الكبير وقالا له :
أيها الملك ، انه قد ضوى الى بلدك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا
في دينك ، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا اليك فيهم أشراف
قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشيرتهم لتردهم اليهم ، فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما
عابوا عليهم وعاتبوهم فيه .
فولى النجاشي وجهه شطر المسلمين، ملقيا عليهم سؤاله :
ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، واستغنيتم به عن ديننا ؟؟
ونهض جعفر رضي الله عنه قائما ، ليؤدي المهمة التي كان المسلمون المهاجرون قد
اختاروه لها ابان تشاورهم ، وقبل مجيئهم الى هذا الاجتماع.
نهض جعفر رضي الله عنه في تؤدة وجلال ، وألقى نظرات محبة على الملك الذي أحسن
جوارهم وقال :
( أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ،
ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله
الينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه ، وأمانته وعفافه ، فدعانا الى الله لنوحده ونعبده،
وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، فعبدنا الله وحده ،
فلم نشرك به شيا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ،
فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا الى عبادة الأوثان ، فخرجنا إلى بلادك ، واخترناك
على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك )
فقال النجاشي : هل معك مما جاء به الله من شيء .
فقال له جعفر رضي الله عنه : ( نعم )
وقرأ عليه من صدر سورة مريم ، فبكى النجاشي وبكت أساقفته ، ثم قال النجاشي :
ان هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ! انطلقا فلا والله لا أسلمهم اليكما ، ولا يكادون
لكن عمرو بن العاص كان داهية واسع الحيلة، لا يتجرع الهزيمة، ولا يذعن لليأس ، وهكذا لم
يكد يعود مع صاحبه الى نزلهما، حتى ذهب يفكر ويدبر، وقال لزميله :
والله لأرجعن للنجاشي غدا، ولآتينه عنهم بما يستأصل خضراءهم
وأجابه صاحبه : لا تفعل ، فان لهم أرحاما، وان كانوا قد خالفونا
قال عمرو : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، كبقية العباد
وفي الغداة سار الى مقابلة الملك، وقال له :
أيها الملك : انهم ليقولون في عيسى قولا عظيما
واضطرب الأساقفة ، واهتاجتهم هذه العبارة القصيرة ، ونادوا بدعوة المسلمين لسؤالهم
عن موقف دينهم من المسيح.
وعلم المسلمون بالمؤامرة الجديدة، فجلسوا يتشاورون ، ثم اتفقوا على أن يقولوا الحق ا
لذي سمعوه من نبيهم عليه الصلاة والسلام، لايحيدون عنه قيد شعرة، وليكن ما يكن..
وانعقد الاجتماع من جديد ، وبدأ النجاشي الحديث سائلا جعفر رضي الله عنه :
ماذا تقولون في عيسى ؟؟
ونهض جعفر رضي الله عنه مرة أخرى كالمنار المضيء وقال :
( نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم فهو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته
ألقاها الى مريم العذراء البتول )
فهتف النجاشي مصدقا ومعلنا أن هذا هو ما قاله المسيح عن نفسه..
لكن صفوف الأساقفة ضجت بما يشبه النكير..
ومضى النجاشي المستنير المؤمن يتابع حديثه قائلا للمسلمين :
اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي، ومن سبكم أو آذاكم، فعليه غرم ما يفعل .
ثم التفت صوب حاشيته، وقال وسبابته تشير الى مبعوثي قريش :
ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه .
وخرج مبعوثا قريش مخذولين، حيث وليا وجهيهما من فورهما شطر مكة عائين اليها ،
وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة، لابثين فيها كما
قالوا : " بخير دار.. مع خير جار.."
حتى يأذن الله لهم بالعودة الى رسولهم واخوانهم وديارهم.
العودة من الحبشة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفل مع المسلمين بفتح خيبر حين طلع عليهم
قادما من الحبشة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومعه من كانوا لا يزالون في الحبشة من المهاجرين..
وأفعم قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بمقدمة غبطة، وسعادة وبشرا ، وعانقه النبي
صلى الله عليه وسلم وهو يقول :
" لا أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر.. أم بقدوم جعفر.."
وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الى مكة، حيث اعتمروا عمرة القضاء،
وعادوا الى المدينة، وقد اكتلأت نفس جعفر رضي الله عنه روعة بما سمع من انباء اخوانه
المؤمنين الذين خاضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر، وأحد وغيرهما من
المشاهد والمغازي ، وفاضت عيناه بالدمع على الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقضوا نحبهم شهداء أبرار..
وطار فؤداه شوقا الى الجنة، وأخذ يتحين فرصة الشهادة ويترقب لحظتها المجيدة..
الشهادة
في غزوة مؤتة في جمادي الأول سنة ثمان كان لجعفر رضي الله عنه موعدا مع الشهادة ،
فقد رأى جعفر في هذه الغزوة فرصة العمر، فاما أن يحقق فيها نصرا كبيرا لدين الله،
واما أن يظفر باستشهاد عظيم في سبيل الله ، وتقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم
يرجوه أن يجعل له في هذه الغزوة مكانا..
كان جعفر رضي الله عنه يعلم علم اليقين أنها ليست نزهة ، بل ولا حربا صغيرة، انما هي
حرب لم يخض الاسلام منها من قبل ، حرب مع جيوش امبراطورية عريضة باذخة، تملك من
العتاد والأعداد، والخبرة والأموال ما لا قبل للعرب ولا للمسلمين به، ومع هذا طار شوقا
اليها، وكان ثالث ثلاثة جعلهم رسول الله قواد الجيش وأمراءه..
وخرج الجيش وخرج جعفر معه ، والتقى الجمعان في يوم رهيب..
وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده عندما بصر جيش الروم ينتظم مائتي ألف
مقاتل، فانه على العكس، أخذته نشوة عارمة اذ احس في أنفه المؤمن العزيز، واعتداد
البطل المقتدر أنه سيقاتل أكفاء له وأندادا..
وما كادت الراية توشك على السقوط من يمين زيد بن حارثة، حتى تلقاها جعفر باليمين
ومضى يقاتل بها في اقدام خارق ، اقدام رجل لا يبحث عن النصر، بل عن الشهادة...
وتكاثر عليه وحوله مقاتلي الروم، ورأى فرسه تعوق حركته فاقتحم عنها فنزل ، وراح
يصوب سيفه ويسدده الى نحور أعدائه كنقمة القدر ، ولمح واحدا من الأعداء يقترب من
فرسه ليعلو ظهرها، فعز عليه أن يمتطي صهوتها هذا الرجس، فبسط نحوها سيفه، وعقرها..
وانطلق وسط الصفوف المتكالبة عليه يدمدم كالاعصار، وصوته يتعالى بهذا الرجزالمتوهج :
يا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة، وبارد شرابها
والروم روم، قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها
علي اذا لاقيتها ضرابها
وأدرك مقاتلو الروم مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل، وكانه جيش ، وأحاطوا به في اصرار
مجنون على قتله ، وحوصر بهم حصارا لا منفذ فيه لنجاة..
وضربوا بالسيوف يمينه، وقبل أن تسقط الراية منها على الأرض تلقاها بشماله ، وضربوها
هي الأخرى، فاحتضن الراية بعضديه ، في هذه اللحظة تركزت كل مسؤوليته في ألا يدع
راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تلامس التراب وهو حي.. فقتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة
وحين تكومت جثته الطاهرة، كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه، ونادت
خفقاتها عبدالله بن رواحة رضي الله عنه فشق الصفوف كالسهم نحوها، واخذها في قوة،
ومضى بها الى مصير عظيم..
الحزن على جعفر
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها :
( لما أتى وفاة جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن )
فعندما أتاه نعي جعفر رضي الله عنه دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على امرأته
أسماء بنت عميس رضي الله عنها وقال لها : " ائتني ببني جعفر "
فأتت بهم فشمهم ودمعت عيناه فقالت :
يا رسول الله بأبي وأمي ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وأصحابـه شيء ؟
فقال : " نعم أصيبـوا هذا اليوم "
فقامت تصيح ، ودخلت فاطمـة وهي تبكي وتقول : واعماه !!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "على مثل جعفر فلتبكِ البواكي "
ورجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال :
" لا تغفلوا آلَ جعفر ، فإنهم قد شُغلوا "
ثم عاد الى مجلسه، وأصحابه حافون به ، ووقف شاعرالاسلام حسان بن ثابت يرثي
جعفر ورفاقه :
غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم
الى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغرّ كضوء البدر من آل هاشم
أبي اذا سيم الظلامة مجسر
فطاعن حتى مال غير موسد
لمعترك فيه القنا يتكسّر
فصار مع المستشهدين ثوابه
جنان، ومتلف الحدائق أخضر
وكنا نرى في جعفر من محمد
وفاء وأمرا حازما حين يأمر
فما زال في الاسلام من آل هاشم
دعائم عز لا يزلن ومفخر
وذهب المساكين جميعهم يبكون أباهم، فقد كان جعفر رضي الله عنه أبا المساكين..
يقول أبو هريرة:
" كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب"...
فضله
- قال أبو هريرة رضي الله عنه :
( ما احتذى النعَال ولا ركب المطَايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر )
- وكان رسول صلى الله عليه وسلم يقول لجعفر رضي الله عنه : " أشبهتَ خلقي وخُلقي "
- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه : " أبا المساكين "
- دخل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في هم شديد بعد استشهاده حتى أتاه جبريل
عليه السلام فأخبره أن الله تعالى قد جعل لجعفر جناحَين مضرجينِ بالدم ، يطير بهما مع الملائكة .
- كما قال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه :
( كنت إذا سألت عليا شيئا فمنعني وقلت له : بحق جعفر .. إلا أعطاني )
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى عبد الله بن جعفررضي الله عنه
قال : ( السلام عليك يا ابن ذي الجناحين )
يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنه :
( كنت مع جعفر في غزوة مؤتة، فالتمسناه، فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين رمية وطعنة )
بضع وتسعون طعنة سيف ورمية رمح..!!
ومع هذا، فهل نال القتلة من روحه ومن مصيره منالا..؟؟
أبدا.. وما كانت سيوفهم ورماحهم سوى جسر عبر عليه الشهيد المجيد الى جوار الله
الأعلى الرحيم، حيث نزل في رحابه مكانا عليا..
انه هنالك في جنان الخلد، يحمل أوسمة المعركة على كل مكان من جسد أنهكته السيوف والرماح..