المرحوم عبدالله الكليب الشريدة by naser69, on Flickr
هزاع البراري - كانت لناحية الكورة شمال الأردن، دور بارز في مرحلة تأسيس إمارة شرق الأردن، فلقد شكل الشيخ كليب الشريدة بحضوره العشائري، ومكانته التي حظيت باحترام وتقدير تجاوزا حدود الوطن، محطة بارزة في تاريخ شرق الأردن، ولم تكن زعامات الأردن تقف عند حدود مصطنعة، أو تغفل واجباتها القومية التي فرضتها ظروف المنطقة والموقع الجغرافي، لذا نجد أن الأردنيين أسهموا في الأحداث الكبرى التي اجتاحت البلاد العربية، منذ استتباب الأمر للعثمانيين، وكان لحسهم النضالي أثر حاسم في كثير من المفاصل التاريخية، سواء على الأرض الأردنية، أو على ساحات الوغى في البلاد المجاورة، فكان معالي عبد الله باشا الشريدة، مثالا واضحا على هذه الروح، التي لم تغادر رجال هذه الأرض منذ فجر التاريخ، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فلقد حمل سلاح المقاومة، وخاض غمار المعارك الطاحنة، فقدم روحه فداء لأرض فلسطين، وحرية سوريا ولبنان، وكان من أبرز رجالات مرحلة التأسيس وما بعدها، حتى شكلت مراحل حياته المختلفة، خريطة معبرة عن الأحداث والتحولات التي أعادت تشكيل المنطقة برمتها.
ولد عبد الله الشريدة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتجمع الروايات أن ولادته كانت عام 1890م، في الفترة الساخنة من تاريخ العرب الحديث، وكان والده الشيخ كليب باشا الشريدة، حاكم منطقة ناحية الكورة، حيث أنشأ إدارة خاصة به، وأصبحت له الكلمة الأولى في ناحيته في أواخر العهد العثماني، وكان له رجاله الذين اعتبروا بمثابة قوة حماية محلية، وشكلت قرية « تبنه « مسقط رأسه، المكان الذي جمع البلدات المحيطة بها، والتي نشأ فيها عبد الله مترعرعاً بين أكناف والده المهاب، وكانت مضافته المعلم الرئيسي لهذا الطفل، الذي أخذت تظهر عليه علامات النبوغ المبكر، وقد حرص والده على إتاحة فرصة التعليم لابنه، عندما كانت البلاد تعاني من افتقارها للمدارس المناسبة، فالتحق عبد الله الشريدة بالمدرسة الابتدائية، ومن ثم التحق بعد أن أنهى الابتدائية بالمدرسة الرشيدية في مدينة اربد، ولم تكن المواصلات كما هي اليوم، مما يفرض على طلبة العلم مشاق إضافية، تضطرهم في كثير من الأحيان، العيش بعيداً عن الأهل وهم في سن صغيرة.
لم تكن المدارس الثانوية في متناول أبناء الأردن في تلك الفترة، وكان على من يرغب من أبناء المنطقة في إكمال دراسته الثانوية الذهاب إلى القدس أو دمشق، لذا قرر كليب الشريدة إرسال ابنه عبد الله إلى مدرسة مكتب عنبر الشهيرة في دمشق، وقد واظب على الدراسة فيها، حتى تمكن من الحصول على الثانوية عام 1914م، عاد بعدها إلى قريته « تبنة « وقد كان لوالده موقف حازم، حين رفض فكرة دخول عبد الله الجيش العثماني، كمرشح - كوجك ضابط – حيث تركت تصرفات حزب الإتحاد والترقي العنصرية، أثرها السلبي في نفوس العرب، الذين وقفوا ضدها، وكان كليب الشريدة من الذين تصدوا لهذه السياسة، وفضل أن يعمل ابنه مدرساً ليخدم أبناء بلاده، فعمل مدرساً في مدرسة دير أبي سعيد عام 1915م، حيث كان له دور في تعليم جيل من أبناء المنطقة، وكان للمختار في العهد العثماني، والسنوات التي تلته مكانته الاجتماعية والإدارية، فأصبح عبد الله مختاراً لقرية كفر الماء التي تتبع ناحية الكورة.
لعب عبد الله الشريدة دوراً نضالياً مشهوداً، بعد أن هيأه والده لتبوء هذه المكانة المشتهاة، حيث تعرضت البلاد العربية لمؤامرة الاستعمار والتقسيم، وطعن العرب الذين فجروا ثورتهم الكبرى، طلباً للحرية والاستقلال في ظهورهم، فلقد تأمر الغرب على الدولة العربية التي قامت في سوريا الطبيعية، عندما نودي بالأمير فيصل بن الحسين ملكاً عليها، وسقوط الحكومة العربية بعد معركة ميسلون، وسيطرة الفرنسيين على سوريا، هب رجالات الأردن لنجدة أخوتهم في سوريا، فكان عبد الله على رأس جيش كبير خرج من مدن وبلدات الشمال، مع جيش آخر خرج من البلقاء بقيادة الشيخ منور الحديد وبمشاركة الشيخ ماجد العدوان، وعدد من كبار رجالات الأردن، حيث أبلى الأردنيون بلاءً مشهوداً، وخاضوا معارك طاحنة ضد الفرنسيين، في تسع قرى حورانية، وكان لهم دور في تحرير مرجعيون من الفرنسيين ولو مؤقتاً. (د. عبد العزيز الشريدة. خالد بن الوليد وذريته المخزومية).
عايش الأردنيون الإرهاصات الأولى للقضية الفلسطينية، فكانوا كما هم دوماً متيقظي الاستجابة، لذا كان عبد الله الشريدة في مقدمة الجيش الذي شكله رجال الأردن، في أعقاب مؤتمر « قم « حيث أدركوا الخطر الداهم الذي تشكله المستوطنات اليهودية، المدعومة من قوات الانتداب البريطانية، فتوجهوا إلى فلسطين، وخاضوا معركة غير متكافئة مع القوات البريطانية والعصابات اليهودية، في منطقة تل الثعالب قرب قرية «سمخ» وسقط عدد من المجاهدين شهداء، وعلى رأسهم الشيخ المجاهد كايد المفلح عبيدات، لقد كان لهذه المشاركات والأحداث أثرها العميق في نفسه، فقد ساند والده زعيم الكورة، عندما سعى لتأسيس إدارة محلية، بعيد سقوط الحكومة العربية في دمشق، وعانت البلاد من فراغ إداري واضح، وخلال مرحلة تأسيس إمارة شرق الأردن، كان عبد الله الشريدة يضطلع بدوره بكل تميز كعادته، ورافق والده إلى القصر الأميري، لمقابلة الأمير عبد الله بن الحسين أكثر من مرة، حيث جمعت بينهم علاقة ود وتقدير كبيرين، وعندما أعلن عن أول انتخابات تشريعية في البلاد، خاض الانتخابات عام 1929م، محققاً فوزاً كبيراً، ليكون نائباً عن المنطقة في المجلس التشريعي، الذي نهض بمهام جسام في تلك المرحلة الصعبة، ليفوز بعضوية هذا المجلس عدة مرات بعد ذلك، لما تمتع به من مكانة كبيرة، ومحبة الناس الصادقة.
حاز عبد الله الشريدة على لقب «باشا» عندما أنعم عليه سمو الأمير عبد الله بهذا اللقب من خلال إرادة أميرية خاصة، تقديراً لجهوده في خدمة الوطن والناس، وكان ذلك عام 1939م، بعد ذلك أي في عام 1941م، تم تعيينه متصرفاً للواء معان، لكنه لم يستمر في هذا المنصب إلا قليلاً، حيث سرعان ما أوكلت له مهمة أخرى، فلقد دخل الحكومة لأول مرة، في حكومة توفيق أو الهدى، عندما تسلم حقيبتي التجارة والزراعة، لكنه قدم استقالته من الحكومة في شهر تشرين أول عام 1942م، وتوجه للعمل الحزبي، حيث كانت الحياة السياسية ناشطة، في مرحلة التحولات المتسارعة، فلقد أسهم في تأسيس وعضوية عدد من الأحزاب، في فترة مبكرة من عمر الإمارة، مثل حزب الإخاء عام 1937م، وحزب الإتحاد الوطني، وحزب النهضة العربية، وفي العام 1956م أصبح عضواً في الحزب الوطني الدستوري، وقد كون الشريدة خبرة سياسية كبيرة من خلال عمله النضالي والحزبي، وخدمته في القطاع الحكومي.
كان لعبد الله الشريدة مكانة عشائرية مرموقة، وعرف بجهوده في حل مشاكل الناس، والقيام على قضاياهم، حيث تأكد هذا الدور بشكل رسمي، عندما صدرت الإرادة الأميرية عام 1945م، بتعيينه قاضياً عشائرياً للواء عجلون، نظراً لمعرفته الكبيرة في هذا المجال، فلقد تميز بإحقاقه الحق، وعدله بين الناس، وقد ورث ذلك كله من والده، عاد بعد ذلك للوزارة في حكومة توفيق أبو الهدى عام 1954م، وأصبح وزير دولة، وقد خاض انتخابات مجلس النواب عدة مرات وحقق الفوز في كل دورة، وتمكن في عام 1951م من الفوز بمنصب رئيس مجلس النواب الأردني، بالتالي أصبح عضواً في هيئة الوصاية على العرش، وقد استمر عضواً في مجلس النواب حتى العام 1989م، وقد شكلت حياته مراحل عمل متواصل، قضاها في خدمة وطنه وأمته، واستطاع أن يسهم إسهاماً فاعلاً في بناء الدولة الأردنية، وأن يترك بصمته الخاصة على مرحلة صعبة من عمر الأردن.
كان عبد الله الشريدة، من الجيل الذي عايش مرحلة النضال المسلح في سوريا وفلسطين، من ثم تحول للعمل السياسي والانتماء الحزبي، والعمل الحكومي والعشائري، ولم يترجل عن ناصية العمل حتى لحظات عمره الأخيرة، عندما توفي بتاريخ 22/1/1997م، تاركاً أثره الطيب وعمله الصالح، ومكانة خاصة في وجدان الناس، وفي الذاكرة الوطنية، وسيبقى كالنبع العذب الذي لا ينضب أبداً.
جريدة الرأي الاردنية 23-1-2012