لا يزال يسود لدى بعض الألمان الاعتقاد بأن من اخترع الطريق السريع هم النازيون الذين روجوا بأنهم قد قلصوا من نسب البطالة المرتفعة من خلال إطلاق مشاريع لمد الطرق السريعة. ولكن الحقيقة تقول بأن ذلك لم يكن سوى كذبة تاريخية.
أدولف هتلر وهو يضرب المعول بقوة في كثيب الرمل، بينما يلتف الجنود بكثافة حوله. أحدهم يحمل كاميرا في يديه، من أجل التقاط صورة للزعيم وتوثيق أول ضربة معول للبدء في مد قطعة أخرى من الطريق السريع: هذه الصورة النموذجية كانت في تلك الأيام شائعة في جميع أنحاء البلاد، وخاصة في المناطق التي كان يتم فيها مد أجزاء بما كان يسمى "الطرق السريعة للرايخ". كان لهذا العرض هدف واحد فقط: يجب أن تصل الأنشطة إلى المواطنين في جميع أنحاء الرايخ (الإمبراطورية). وكان يتم الاحتفال ببدء أعمال مد الطرق السريعة، ثم يجري الاحتفال بشكل منفصل بافتتاح تلك الطرقات لحركة المرور.
هتلر يتعرف على الطريق السريع لأول مرة
إنه تحول غريب، فقبل بضع سنوات فقط قام الحزب النازي الألماني بالاشتراك مع الحزب الشيوعي بإعاقة مد الطرقات العادية. وكانوا يبررون ذلك بأن مد تلك الطرقات لا يخدم سوى "الأرستقراطيين الأثرياء والرأسماليين اليهود ومصالحهم". وبقي النازيون لذلك بعيدين عن المفاوضات السياسية بشأن تمويل الطرق السريعة للمسافات البعيدة. وبقي الحال هكذا إلى أن آلت مقاليد السلطة لأدولف هتلر في عام 1933، عندها اكتشف النازيون أهمية الطرق السريعة لخدمة مصالحهم الخاصة.
وحتى سنة 1929 كان هناك تعثر في بناء الطرق السريعة في ألمانيا، بسبب الأزمة الاقتصادية ونقص رأس المال اللازم لذلك. وكانت ألمانيا حينها تئن تحت تبعات نسب البطالة المرتفعة جداً والتضخم الشامل، إضافة إلى المبالغ المالية الضخمة التي كان يتعين عليها دفعها للدول الأخرى كتعويضات الحرب العالمية الأولى. وكان كونراد أديناور، الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس بلدية كولونيا، الوحيد الذي نجح عام 1932 في بناء وتمويل أول طريق سريع يربط بين مدينتي بون وكولونيا خالٍ من التقاطعات. ولا يزال هذا الطريق السريع الذي يحمل اسم "A 555" موجوداً حتى يومنا هذا. وكان طوله آنذاك يبلغ 20 كيلومترا، فيما كانت السرعة المسموح بها لا تتعدى 120 كيلومترا في الساعة، فيما كانت سرعة معظم السيارات آنذاك لا تتجاوز 60 كيلومترا في الساعة.
وكانت منطقة كولونيا وماجاورها تعتبر في ذلك الوقت أكثر المناطق اكتظاظا بالسيارات وبالمسافرين. وبعد نصف عام فقط من افتتاح ذلك الطريق السريع، قام الحزب النازي الحاكم بتخفيض تصنيف الطريق ليكون طريقاً عادياً بدلاً من سريع، وذلك ليحتكر الحزب لنفسه لقب أول من شق الطرق السريعة.
استخدام الطريق السريعة لأغراض دعائية
ولكن لابد من العودة قليلاً إلى الوراء، وبالتحديد إلى سنة 1909، ففي ذلك العام اجتمع عدد من الصناعيين من عشاق السيارات وبعض المواطنين النافذين وقرروا العمل من أجل مد طريق تسير عليه السيارات، بعيداً عن الغبار والأوساخ وبعيداً عن المشاة والعربات التي تجرها الخيول، ما يسمح بحرية السفر.
وبالفعل انطلقت في عام 1913 في برلين أشغال مد "طريق مرور السيارات والتدريب"، المعروف آنذاك اختصارا بـ(AVUS) . وبدلاً من المسافة المخطط لها مسبقاً والتي تبلغ 17 كيلومترا، لم يكف المال المخصص في النهاية إلا لعشرة كيلومترات فقط. لكن العمل توقف بسبب الحرب العالمية الأولى، وبعد عام 1921 أصبح الطريق يستخدم لاختبار السيارات الرياضية السريعة.
وفي عام 1926 تأسس ناد عمل على مد طريق يربط ألمانيا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، بحيث يبدأ من هامبورغ مرورا بفرانكفورت وصولاً إلى مدينة بازل. ولكن المبادرة لقيت في البداية رفضاً من جانب النازيين، ليختلف الأمر بعد استيلاء هتلر على السلطة، حيث لقيت خطط مد الطريق قبولاً جزئياً، وتم تغيير اسم النادي إلى "شركة مد شبكة الطرق السريعة للرايخ".
ويقول المؤرخون إن ما قام به أدولف هتلر إنما هو ركوب على موجة التنقل والتي ازدادت أهميتها بشكل كبير آنذاك في جميع أنحاء العالم. وكان هتلر يتقن الوسائل التي يمكن من خلالها اجتذاب الألمان وكسب ودهم من أجل تأمين سلطته. ذلك أن أمراً واحداً كان واضحاً تماماً: القليل من الألمان فقط كان بإمكانهم وقتذاك امتلاك سيارة خاصة وبالتالي فهم بحاجة إلى الطرق السريعة الجديدة. وقد استغلت الدعاية النازية ذلك الأمر ووعدت بتأمين إمكانية التنقل لعموم الشعب وليس للأثرياء فقط، وولدت بالتالي فكرة "سيارة الشعب" (فولكس فاغن). كما خضعت شركة القطارات والنقل الألمانية العمومية لضغوط هتلر وسيّرت حافلات نقل جماعي على الطرق السريعة التي تم إنجازها.
وكان يفترض في كل عام أن يتم الانتهاء من إنجاز 1000 كيلومتر من الطرق السريعة، تجسيدا لأوامر هتلر. وفي عام 1934 تحدث عن بداية "معركة العمل" وأعلن أنه سيقلل بذلك من الأعداد المرتفعة للعاطلين عن العمل. وكان مخططاً أن يخلق مشروع الطرق السريعة ما لا يقل عن 600 ألف فرصة عمل، ولكن في الواقع لم يتجاوز الأمر في أوقات الذروة أكثر من 120 ألفاً من العمال. ولكن مد الطرق السريعة طغت عليه المآسي أيضاً: المرض والجوع والموت والبؤس. الإضرابات كانت آنذاك ممنوعة، ومن كان يقود الإضرابات كان يتم الزج به في معسكرات الاعتقال النازية. ولم يكن حينها يتسرب شيء من هذه الممارسات إلى عموم الناس.
الطريق السريع والكذبة التاريخية
وبمرور السنين كان الناس يجدون باستمرار وظائف في المجال الصناعي المزدهر، ألا وهو صناعة الأسلحة. هذا ما كان يخفض نسبة البطالة فعلاً، وليس مد الطرق السريعة. وخلال سنوات الحرب، كان يتم إجبار المزيد من السجناء وعمال السخرة اليهود على العمل في مد الطرق السريعة. أما عمال الطرق السريعة المكلفون بها أصلاً فيتم إرسالهم للقتال في الحرب. وحتى عام 1941 تم الانتهاء من مد 3800 كم من الطرق السريعة، فيما تم بين عامي 1941 و 1942 إيقاف العمل بشكل كامل تقريباً. وانطلاقاً من خريف سنة 1943، وبسبب انخفاض حركة مرور السيارات، تم السماح حتى لراكبي الدراجات باستخدام الطرق السريعة.
لقد ساهمت الدعاية النازية، ولسنوات طويلة، في ترويج خرافة "معجزة الطرق السريعة"، ولقد نجحت في ذلك. وكانت الأفلام والصور تظهر مسيرات العاملين في مد الطرق السريعة، بينما في الحقيقة كانت الأعمال قد توقفت منذ زمن. وبقيت صور جموع العمال على الطرق السريعة راسخة في ذاكرة جيل كامل من الألمان، وبالتالي فقد نجح النازيون في تحقيق هدفهم.