زيد بن حارثة حِب رسول الله



أعد حارثة أبو زيد الراحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة

أهلها في بني معن ، وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما

الصغير زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وكلما هم أن يستودعهما القافلة التي

خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو الى داره وعمله، ودفعه حنان خفي

وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده..

لكن الشقة بعدت، والقافلة أغذت سيرها، وآن لحارثة أن يودع الوليد وأمه،

ويعود..وكذا ودعهما ودموعه تسيل.. ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى

غابا عن بصره، وأحس كأن قلبه لم يعد في مكانه.. كأنه رحل مع الراحلين..

وذات يوم فوجئ الحي، حي بني معن، باحدى القبائل المناوئة له تغير عليه،

وتنزل الهزيمة ببني معن، ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليفع،زيد بن حارثة..

وعادت الأم الى زوجها وحيدة ، ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خر صعقا، وحمل

عصاه على كاهله، ومضى يجوب الديار، ويقطع الصحارى، ويسائل القبائل

والقوافل عن ولده وحبة قلبه زيد رضي الله عنه

وعندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها، وعادت حاملة أسراها،

ذهبت الى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ، وباعوا الأسرى..

ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة

وكانت خديجة رضي الله عنها، قد صارت زوجة لمحمد بن عبدالله صلى الله

عليه وسلم ، الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد ، بيد أنه كان يحمل كل الصفات

العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غدا من المرسلين..

ووهبت خديجة رضي الله عنها بدورها خادمها زيد لزوجها رسول اله صلى الله

عليه وسلم فتقبله مسرورا وأعتقه من فوره، وراح يمنحه من نفسه العظيمة

ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية..

وفي أحد مواسم الحج. التقى تفر من حي حارثة بزيد رضي الله عنه في مكة،

ونقلوا اليه لوعة والديه، وحملهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه، وقال للحجاج من قومه :

( أخبروا أبي أني هنا مع أكرم والد )

ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذ السير اليه، ومعه أخوه..

وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين صلى الله عليه وسلم ولما لقياه

قالا له : يا بن عبدالمطلب ، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم، تفكون العاني،

وتطعمون الأسير.. جئناك في ولدنا، فامنن علينا وأحسن في فدائه

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تعلق زيد به، وكان في نفس الوقت يقدر حق ابيه فيه..

هنالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" ادعوا زيدا، وخيروه، فان اختاركم فهو لكم بغير فداء ، وان اختارني فوالله

ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء "

وتهلل وجه حارثة الذي لك يكن يتوقع كل هذا السماح وقال :

لقد أنصفتنا، وزدتنا عن النصف

ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم الى زيد، ولما جاء سأله :

" هل تعرف هؤلاء"..؟

قال زيد رضي الله عنه : ( نعم.. هذا أبي.. وهذا عمي )

وأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله لحارثة وهنا قال زيد :

( ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت الأب والعم )

ونديت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموشاكرة وحانية، ثم أمسك

بيد زيد رضي الله عنه ، وخرج به الى فناء الكعبة، حيث قريش مجتمعة هناك، ونادى :

" اشهدوا أن زيدا ابني.. يرثني وأرثه "

وكاد قلب حارثة يطير من الفرح ، فابنه لم يعد حرا فحسب، بل وابنا للرجل الذي

تسميه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها..

وعاد الأب والعم الى قومهما، مطمئنين على ولدهما والذي تركاه سيدا في مكة،

آمنا معافى، بعد أن كان أبوه لا يدري : أغاله السهل، أم غاله الجبل .


اسلام زيد وحب رسول الله له


ما حمل الرسول صلى الله عليه وسلم تبعة الرسالة حتى كان زيد ثاني المسلمين ،بل قيل أولهم ..

أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما، وكان بهذا الحب خليقا وجديرا..

فوفاؤه الذي لا نظير له، وعظمة روحه، وعفة ضميره ولسانه ويده...

كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة رضي الله عنه أو زيد الحب

كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام..

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها :

( ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في جيش قط الا أمّره عليهم، ولو بقي حيّا بعد رسول الله لاستخلفه )

الى هذا المدى كانت منزلة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم..

فمن كان زيد هذا..؟؟

انه كما قلنا ذلك الطفل الذي سبي، ثم بيع، ثم حرره الرسول وأعتقه..

وانه ذلك الرجال القصير، الأسمر، الأفطس الأنف، بيد أنه أيضا ذلك الانسان الذي

" قلبه جميع وروحه حر"..

ومن ثم وجد له في الاسلام، وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة

وأرفع مكان ، فلا الاسلام ولا رسوله من يعبأ لحظه بجاه النسب، ولا بوجاهة المظهر


زواج زيد


زوج الرسول صلى الله عليه وسلم زيدا من ابنة عمته ( زينب ) رضي الله عنها ، وقبلت

زينب الزواج تحت وطأة حيائها من الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن الحياة

الزوجية أخذت تتعثر ، فانفصل زيد عن زينب رضي الله عنهما، وتزوجها الرسول

صلى الله عليه وسلم واختار لزيد زوجة جديدة هي ( أم كلثوم بنت عقبة ) ، وانتشرت

في المدينة تساؤلات كثيرة :

كيف يتزوج محمد مطلقة ابنه زيد ؟

فأجابهم القرآن ملغيا عادة التبني ومفرقا بين الأدعياء والأبناء قال تعالى :

(( ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ، ولكن رسول الله ، وخاتم النبيين ))

وهكذا عاد زيد رضي الله عنه الى اسمه الأول ( زيد بن حارثة )



فضله


- قال الرسول صلى الله عليه وسلم :

" دخلت الجنة فاستقبلتني جارية شابة ، فقلت : " لمن أنت ؟ "

قالت : لزيد بن حارثة

- كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :

" لا تلومونا على حبِّ زيدٍ "

- وآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين زيد بن حارثة وبين حمزة بن عبد المطلب

- بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعثا فأمر عليهم أسامة بن زيد ، فطعن بعض

الناس في إمارته فقال صلى الله عليه وسلم :

" إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل ، وأيمُ الله إن

كان لخليقاً للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إليّ ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده "

- قالت السيدة عائشة رضي الله عنها :

( لم يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قط، الا جعله أميرا على هذا الجيش )


غزوة مؤتة


كان الروم بأمبراطوريتهم الهرمة، قد بدأوا يوجسون من الاسلام خيفة..

بل صاروا يرون فيها خطرا يهدد وجودهم ، ولا سيما في بلاد الشام التي

يستعمرونها، والتي تتاخم بلاد هذا الدين الجديد، المنطلق في عنفوان واكتساح..

وهكذا راحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على الجزيرة العربية، وبلاد الاسلام...

وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف المناوشات التي بدأها الروم



ليعجموا بها عود الاسلام..

فقرر أن يبادرهم، ويقنعهم بتصميم الاسلام الى أرض البلقاء بالشام، حتى

اذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من الروم ومن القبائل المستعربة التي

كانت تقطن الحدود..ونزل جيش الروم في مكان يسمى مشارف..

في حين نزل جيش الاسلام يجوار بلدة تسمى مؤتة، حيث سمّيت الغزوة باسمها...

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية هذه الغزوة وخطرها فاختار

لها ثلاثة من الرهبان في الليل، والفرسان في النهار..

ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم لله فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية الا في استشهاد

عظيم يصافحون اثره رضوان الله تعالى، ويطالعون وجهه الكريم..

وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم في امارة الجيش هم:

- زيد بن حارثة

- جعفر بن أبي طالب

- عبدالله بن رواحة.

رضي الله عنهم جميعا

وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف يودع الجيش يلقي أمره السالف :

" عليكم زيد بن حارثة..

فان أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب،

فان أصيب جعفر ، فعبدالله بن رواحة "

وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي طالب كان من أقرب الناس الى قلب ابن عمه رسول

الله صلى الله عليه وسلم..

وعلى الرغم من شجاعته، وجسارته، وحسبه ونسبه، فقد جعله رسول الله صلى الله

عليه وسلم الأمير التالي لزيد، وجعل زيدا الأمير الأول للجيش...

وبمثل هذا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر دوما حقيقة أن الاسلام دين جديد

جاء يلغي العلاقات الانسانية الفاسدة، والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل،

لينشئ مكانها علاقات جديدة، رشيدة، قوامها انسانية الانسان..

ولكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ غيب المعركة المقبلة حين وضع

امراء الجيش على هذا الترتيب : زيد فجعفر ، فابن رواحة..

فقد لقوا ربهم جميعا وفق هذا الترتيب أيضا ..

ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه بمائتي ألف مقاتل حتى

أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب..

ولكن متى كانت معارك الايمان معارك كثرة..؟؟

هنالك أقدموا ولم يبالوا.. وأمامهم قائدهم زيد حاملا راية رسول الله صلى الله

عليه وسلم، مقتحما رماح العدو زنباله وسيوفه، لا يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث

عن المكان الذي ترسو عنده صفقته مع الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.

لم يكن زيد يرى حواليه رمال البلقاء، ولا جيوش الروم بل كانت روابي الجنة،

ورفرفها الأخضر، تخفق أمام عينيه كالأعلام، تنبئه أن اليوم يوم زفافه..

وكان هو يضرب، ويقاتل، لا يطوح رؤوس مقاتليه، انما يفتح الأبواب، ويفض الأغلاق

التي تحول بينه وبين الباب الكبير الواسع، الي سيدلف منه الى دار السلام، وجنات الخلد، وجوار الله..


وعانق زيد مصيره


وكانت روحه وهي في طريقها الى الجنة تبتسم محبورة وهي تبصر جثمان صاحبها،

لا يلفه الحرير الناعم، بل يضخمه دم طهور سال في سبيل الله..

ثم تتسع ابتساماتها المطمئنة الهانئة، وهي تبصر ثاني الأمراء جعفرا يندفع كالسهم

صوب الراية ليتسلمها، وليحملها قبل أن تغيب في التراب....


بُكاء الرسول


حزن النبـي صلى اللـه عليه وسلم على زيد رضي الله عنه حتى بكاه وانتحب ،

فقال له سعـد بن عبادة : ما هذا يا رسـول الله ؟!

قال : " شوق الحبيب إلى حبيبه "