الرفق والسماحة Image18217

الرفق والسماحة


الرفق والسماحة، ورسولنا صلى الله عليه وسلم الذي كملت أخلاقه وعظمت شمائله وازدانت خصائصه كان له من هذا الخلق أوفر الحظ والنصيب، وكما تعودنا فإننا نبدأ في الحديث عن معنى الخلق الذي نتحدث عنه ثم نتلمسه في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم شمائل زكية وخصال نقية.

الرفق في لغة العرب:

أصل يدور على معنى واضح يتجلى بضده، فكثيرا ما نجد أهل اللغة يقولون: الرفق ضد العنف.

وكما قال ابن فارس في معجمه رحمه الله: "الرفق: الراء والفاء والقاف أصل يدل على موافقة ومقاربة بلا عنف"، فمعنى الرفق موافقة لا مخالفة ومقاربة لا مباعدة ولين لا عنف وذلك الأمر هو في جانبين: في سمت الإنسان، وصفته، فنقول فلان رفيق لأنه حتى وإن لم يتعامل مع غيره من البشر فإنه يمكن أن يوصف بالرفق إذ يكون رفيقا في تعامله مع الأشياء والجمادات وغير المدركات من المخلوقات كالحيوانات، ثم هو أيضا يتجلى في التعامل البشري والإنساني.

والرفق كذلك فيه معنى المنفعة، فنحن نقول في البيت مرافق أي منافع، وتسمى هذه المرافق العامة بمعنى المنافع، ويكون في الرفق معنى النفع لأن تلك السهولة وذلك اللين يؤدي إلى حصول ووصول المنافع وبقاء الانتفاع بها، فنحن لو تعاملنا مع جهاز من الأجهزة بشدة فإنه يعطب ولا يصلح ولا يعود الانتفاع به حاصلاً، وكذلك إذا تعاملنا مع الناس بشدة فإن ذلك يقطع الوصل بيننا وبينهم ويقطع النفع الذي يمكن أن يُرجى تبادلاً فيما بيننا وبينهم.

ويكون أيضاً في الرفق معنى من معاني الاستعانة والإعانة، يقولون: ارتفق فلان بكذا، أي: استعان به، لأن الاستعانة فيها معنى السهولة والليونة، فإذا كان الشيء صعباً فارتفقت به فإنه نفعك من جهة ويسر لك ما كان صعباً، ومن هنا نجد أن معنى الرفق على هذا واضح في أنه نفع لذاته أو سببٌ يُتوصل به إلى تيسير الأمور ليحصل الغرض المنشود والغاية المقصودة، وهي أن يكون الأمر كما ذكرنا عن ابن فارس رحمه الله موافقة ومقاربة بلا عنف.

ولذا يقولون في معاني الكلمات أن المرفق هو الذي يستعان به كما في قوله جل وعلا: {ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} (الكهف: 16)، أي: شيئا ترتفقون به وتستعينون به ليسهل عليكم ذلك الأمر الذي أخذتم به.

الرفق اصطلاحا:

يكاد يكون التعريف الاصطلاحي مطابقاً أو مشابهاً للتعريف اللغوي، ومن ذلك ما هو مذكور عند كثير من أهل العلم أن "الرفق هو اللين في الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل".

والسماحة أيضا هي بنفس هذا المعنى تقريبا، فالسماحة كما يقول أهل اللغة: أنها أصل مبني على السلاسة والسهولة، فالرجل السمح هو السهل في تعامله السلس في قوله الذي لا يصعب عليك أن تبلغ حاجتك منه، أو أن تأخذ حقك منه، أو ما هو أعظم من ذلك وهو أن يتنازل لك عن ما ليس لك فيه حق لأن سماحة نفسه تجود بذلك.

والسماحة أيضا فيها معنى العطاء لأنه إذا قالوا: سمح فلان بكذا، أي: أذن بأخذه وأعطاه لغيره، ومن هنا يقولون عن الرجل السمح: إنه سمح إذا كان يعطي ويبذل ويجود ويكرم، وهذا أيضا ما ذكره بعض أهل العلم كالجرجاني في تعريف اصطلاحي للسماحة قال: "هي بذل ما لا يجب تفضلا" فهي بذل شيء ليس بواجب، وإنما هو من باب التفضل وسماحة النفس.

ولابد لنا لكي نزداد معرفة بالرفق والسماحة أن نقول إنهما في الحقيقة فرع عن أحد أصلين من أصول الأخلاق والشمائل العظيمة الكبيرة، الرحمة التي تحدثنا عنها من قبل إنما يكون الرفق جزءاً منها، وفرعاً من فروعها لأن من فاض قلبه بالرحمة فإن ذلك يؤدي إلى أن يكون رفيقا في قوله وفعله وتعامله وأخذه للأمور في الجملة.

وكذلك من جهة أخرى نرجع الرفق إلى الصبر، فإن الصبر وهو كظم الغيظ ومنع إنفاذ الغضب وعدم الشدة في التعامل هو حبس للنفس عن هذه الأمور فالرفق كذلك مرجعه أو أصل من أصوله هو الصبر، ولذلك قد يرد من المعاني ومن الأمثلة ما قد يكون متطابقا أو ربما مذكورا من قبل في الرحمة أو الصبر وذلك لأنهما أصل لهذا الخلق وهو الرفق أو السماحة.

مسائل ذكرها الغزالي رحمه الله في موضوع الرفق ندرجها فيما يلي:

الأولى: الرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال، ومعنى هذا: أن الرفق في الحقيقة هو أحد الأدلة الظاهرة على وجود حسن الخلق أصلاً، لأن حسن الخلق هو ضبط التعاملات بما يؤدي إلى تحقيق المصالح ومنع المفاسد، والرفق إنما هو كذلك، حتى عندما يكون الإنسان متعجلا أو قد يقع في أمر ما تقول له: ترفّق، أي: تأنّ وخذ الأمور بروية وبإحسان وبلطف حتى يحسن لك ما تريد الوصول إليه بإذنه جل وعلا.

الثانية: هل الرفق يقتضي أن يكون المرء ليناً في سائر الأحوال وفي كل الأوقات؟ حتى على سبيل المثال: إذا ارتكبت المنكرات، أو انتهكت الحرمات، يبقى الإنسان على ذات رفقه ولينه؟ أم أن الرفق واللين في حقيقته إنما هو وضع الشيء في موضعه.

ومن هنا نقل الغزالي عن سفيان الثوري أنه قال لأصحابه: تدرون ما الرفق؟ قالوا: قل يا أبا محمد، قال: أن تضع الأمور في مواضعها، الشدة في موضعها، واللين في موضعه، والسيف في موضعه، والسوط في موضعه، كل بحسبه، قال: وهذه إشارة إلى أنه لابد من مزج الغلظة باللين والفظاظة بالرفق ، كما قال الشاعر:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى

الثالثة: نعلم أن الشارع الحكيم ورد عنه في الكتاب الكريم آيات تتلى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تروى في شأن الرفق والحضِّ عليه والأمر به وهي كثيرة، لماذا؟ قال الغزالي: لأنه لما كانت الطباع في الجملة تميل إلى العنف والحدة وتميل إلى استنفاذ واستخراج الحقوق والشح بالتنازل عنها كان الأمر بما يضاد ذلك، وهو ما لا تلين به النفوس ولا يسلس قيادها به وهو الرفق، نحن لا نحتاج أن نقول للإنسان كن عنيفاً في وقت كذا، فهو بطبعه إذا ضاع حقه أو إذا أُريد أن يُهضم حقه سيكون له من الشدة ما له، فلغلبة هذه الشدة والحدة جاءت نصوص الشارع الحكيم بالأمر بالرفق والحرص عليه.

ننتقل إلى جانب شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم لنتملى هذا الخلق في سيرته العطرة ونبدأ ذلك بما جاء في كتاب الله عز وجل في وصف أو في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، فسمة الرحمة فيه صلى الله عليه وسلم هبة ومنة وكرامة ورفعة من الله عز وجل أورثت لينا في المعاملة ورفقاً في هذه المعاملة وذلك ما ألّف القلوب والنفوس التي دعاها وعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.

وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128)، فالحرص هنا بمعنى الشفقة والرفق وكذلك الرأفة والرحمة المعنى الأوسع.

وجاء في القرآن كذلك ما يدل على هذا في سير الأنبياء تثبيتاً وتبصيراً وبياناً للمصطفى صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44)، هذه النصوص في هذه المواقف تدلنا على أهمية الرفق وعلى لزوم استحضاره في مواقف متعددة ومجالات مختلفة، فإذا كان فرعون وهو أكفر من ذكر الله عز وجل في كتابه من الآيات ما يستبشع من موقفه وادعائه للربوبية والألوهية وغير ذلك، أُمر الرسل والأنبياء أن يكون قولهم له باللين حتى تقام الحجة ويستمال القلب ويهتدي العقل وإذا لم يحصل ذلك فقد كان حينئذ السبب منه لا من الداعي له.

وعندنا أحاديث ونصوص كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام نقف معها بإيجاز قبل أن نتحدث عن المواقف والصور العملية، كلنا يكاد يحفظ حديث عائشة رضي الله عنها المشهور في شأن الرفق لما قال صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيراً دلهم على باب الرفق"، وفي رواية أخرى "أدخل عليهم الرفق" (رواه مسلم)، والحديث الأشهر من رواية عائشة رضي الله عنها: "إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ" (رواه مسلم)، وكذلك الحديث الثالث مروي عنها رضي الله عنها عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره" (رواه مسلم).

ومن اللطيف أن هذه الأحاديث كلها من رواية عائشة رضي الله عنها، بل ومن روايتها ما هو في هذا المعنى وإن كان في ميدان ومجال آخر، فقد روت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به" (رواه مسلم).

وهذه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في جانب الرفق تذكيرا به وحثاً عليه، ثم ذكر عليه الصلاة والسلام أحاديث أخرى فيها الترغيب بما للرفق من ثواب والترهيب بما لضده من عقاب، فقال عليه الصلاة والسلام في حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه الذي أخبر فيه عن أهل الجنة وأنهم ثلاثة وذكر منهم: "رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم" (رواه مسلم)، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه وهو عند الترمذي بسند حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بمن يحرم على النار وتحرم عليه النار، كل قريب هين سهل"، سبحان الله!! لم لا يكون الإنسان قريبا ليناً سهلاً؟ إذا كانت هذه الصفات وهي من الأمور السهلة الميسورة تكون سبباً بإذن الله في دخول الجنة.

وأما الخلال والمواقف فنذكر بعضاً منها، وإلا فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بكثير من هذه المواقف، ومن أكثر هذه المواقف التي تشعرنا برفقه وشفقته عليه الصلاة والسلام حديث مالك ابن الحويرث في الصحيح عند البخاري وغيره وهو يذكر أنهم كانوا شبيبة متقاربين في السن قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأقاموا بالمدينة فترة من الزمن حتى يتعلموا، قال مالك: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا أقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا قد اشتقنا -أي: إلى أهلينا– فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه فقال: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم"، نعم كان يحب أن يعلمهم وكان يرى شدة رغبتهم وتعلقهم بذلك، لكنه لم يكن يغيب عنه أنهم قد فارقوا ديارهم وأزواجهم وأبناءهم، تفطن بعقله الحكيم ولمس بقلبه الرحيم واستشعر بنفسه الفياضة أنه قد بلغ الأمر أنهم قبل أن يشق عليهم ذلك بادرهم حتى يرجعوا إلى أهلهم وأمرهم عليه الصلاة والسلام بالتعليم، وقال: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أعلمكم" كما هو مذكور في رواية البخاري.

وأما الحديث الثاني الذي نذكره فهو حديث مشهور وله روايات كثيرة فيه طرافة ولطافة وظرافة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه تفقد وترفق وتلمس لحاجات أصحابه في مشهد فياض بكل هذه المعاني، في حديث جابر المشهور وهو حديث قد مضى فيه العلماء في شأن الفقه والأحكام المستنبطة منه ومقصدنا منه جانب الرفق واللين والسماحة، يخبرنا فيه جابر رضي الله عنه فيقول: غزى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين غزوة بنفسه صحبته في تسع عشرة غزوة وغبت عن اثنتين" يقول: فبين أنا معه في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي تحت الليل فبرك –جمله تعب وأصبح غير قادر على أن يواصل المسير كما ينبغي – وكان رسول الله في آخرنا، لماذا؟ استمعوا إلى هذه الأوصاف الجميلة من جابر، قال: فيزجي الضعيف ويردف –من كان ضعيف متأخر يردفه معه ويحمله ويشجعه– قال: ويدعو له فانتهى إليّ وأنا أقول: "يا لهف أمياه" وفي بعض الضبط "يا لهف أمتاه" بعد أن برك البعير قال: "وما زال لنا ناضح سوء" هذا كلام جابر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الوقت في الليل، قال: "من هذا؟" قال: أنا جابر بأبي وأمي يا رسول، قال: "ما شأنك؟" قال: أعيا ناضحي، فقال: "أمعك عصا؟"، قلت: نعم، قال: فضربه ثم بعثه ثم أناخه ووطئ على ذراعه وقال: "اركب" فركبت فسايرته فجعل جملي يسبقه –أي يسبق جمل النبي صلى الله عليه وسلم– فاستغفر لي، يقول جابر: في تلك الليلة خمس وعشرين مرة، جابر يعدها لأنهم كانوا يرون هذا اللطف وهذه المعاملة السلسة من رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول: تأملوا الرسول وهو ما زال يحادث جابرا في هذه المسيرة يقول: فقال لي: "ما ترك عبدالله من الولد" أبوه عبدالله استشهد في أحد فيسأله الرسول: "من خلّف بعد استشهاده" قال: قلت: سبعة نسوة، قال: "أترك عليه ديناً؟" قلت: نعم، قال: "فإذا قدمت المدينة فقاطعهم، فإن أبوا، فإذا حضر جذاذ نخلكم فآذني"، وقال لي: "هل تزوجت؟" قلت: نعم، قال: "بمن؟" قال: قلت: بفلانة بنت فلان، ذكرتُ أيماً في المدينة، امرأة قد مات عنها زوجها، فقال: "فهلّا فتاة تلاعبها وتلاعبك؟" وفي الرواية الصحيحة: "فهلّا بكراً تلاعبها وتلاعبك؟" فقلت: يا رسول الله كنّ عندي نسوة خرقٌ –عنده بنات ونساء- قال: فلم أشأ أن آتيهن بامرأة خرقاء- لو كانت صغيرة في السن وهن صغار يصبح الأمر عنده في غاية الصعوبة- قال: هذه أجمع لأمري، قال: "أصبت ورشدت"، قال: "فبكم اشتريت جملك؟" قلت: بخمس أواق من ذهب، قال: "قد أخذناه" –يعني اشتراه منه حتى يعينه على الدين- فلما قدمت المدينة أتيته بالجمل –الآن يريد أن يسلم البضاعة ويأخذ الثمن- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بلال أعطه خمسة أواق من ذهب، يستعين به في دين عبدالله، وزده ثلاثاً واردد عليه جمله"، ليس هناك صفقة أربح من هذه الصفقة التي عقدها النبي عليه الصلاة والسلام لجابر رضي الله عنه، ثم قال: "قاطعت غرماء عبدالله؟" قال: لا، قال: "إذا أترك وفاءً؟" قال: لا، قال: "لا عليك، إذا حضر الجذاذ فائتنا" فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بجذاذ النخل ثم أعطى وأعطى وأعطى وقضى الناس ديونهم، قال جابر رضي الله عنه: فأخذت جذاذنا كما هو ما نقص منه شيء.

فهذه صورة الرسول عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين، القائد الأعظم قائد الجيش ومع ذلك، قصة جمل وقصة زواجه وقصة دين أبيه كلها كانت موضع الاهتمام بكل سهولة ويسر ولين ولطف ومداعبة وقمة في هذه السماحة، لم يجد جابر رضي الله عنه شيئا من الصعوبة ولا شيء من المشقة في أن يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم.

ونذكر وصفاً جامعاً رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه، وعلي من الرسول عليه الصلاة والسلام من مكان القرب، يقول علي في وصفه عليه الصلاة والسلام في شمائل الترمذي: "كان أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، إذا رآه الرجل بداهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أرَ قبله ولا بعده مثله قط صلى الله عليه وسلم".

وهذا وصف جميل من رآه هابه لكن إذا خالطه رأى كل سهولة ورفق ولين ولطف في المعاملة التي كانت من شأنه صلى الله عليه وسلم.

وكان هذا في شأنه كله كما هو في حديث عائشة الشهير: "ما خير النبي عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما"، طبيعة، ولذلك كان يقول لما قالوا له: ادعوا على دوس، قال: "اللهم اهدِ دوساً وائت بهم مسلمين، إنما بعثت رحمة"، ولما قيل له، قال: "إنما لم أبعث معنتاً، وإنما بعثت ميسراً"، ولما بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن، قال: "بشرا ولا تنفرا، يسرا ولا تعسرا، تطاوعا ولا تختلفا"، أحياناً نميل إلى الأخذ بالأشد ظناً منا أنه الأحسن، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يختار الأيسر وهو الأحسن، ما لم يكن إثماً.

ومن لطائف الرفق مع أصحابه حديث مشهور ومن لطائف هذه الأحاديث أن الجوانب الفقهية فيها واسعة، حديث جابر من أكثر الأحاديث التي توسع العلماء واختلفت فيه الآراء في شأن أبواب البيوع وما يتعلق بها، وهذا حديث يرويه الحسن من قصة أبي بكرة رضي الله عنه أتى إلى الصلاة وقد كبّر الإمام للركوع، فماذا صنع؟ كبّر في وسط المسجد ومشى وهو راكع، لو فعلها أحدنا لربما وجد من يدفعه حتى يسقط، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم خبره جاء بلفظ جميل من ناحية الرفق والسماحة من جهة، ومن ناحية التوجيه والتربية من جهة أخرى، قال له: "زادك الله حرصاً ولا تعد"، إنما فعل ذلك للحرص فقال له: نعم حرصك هذا محمود ممدوح زادك الله حرصاً، لكن لا تعد إلى هذا الفعل فإنه ليس هو الحرص الذي نريد أو يحسن بك أن تفعله أو يصح أن تفعله في مثل شأن الصلاة، وهذه من الأمور اللطيفة.

وأما الحادثة التي تليها فهي حادثة شهيرة لأبي هريرة رضي الله عنه، وهي جميلة جدا وفيها نوع من المقارنة التي تبرز وتعلي مقام الرسول عليه الصلاة والسلام في مثل هذه الخلة العظيمة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، وإن كنت لأعتمد بيدي على الأرض من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون فيه، قال: فمرّ بي أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله عز وجل، ما أسأله إلا ليستتبعني، -ما أريد أن أسأل عن الآية، ولكن لعلي إذا سألته يقول قم معي، اتبعني، حتى يأكل- قال: فمرّ ولم يفعل، ثم مرّ عمر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله ما أسأله إلا ليستتبعني فمرّ ولم يفعل، ثم مرّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، يقول: ما سألته، فعرف ما في نفسي وما في وجهي فتبسم صلى الله عليه وسلم، انظروا المقارنة هنا أبو هريرة يروي مشاعر، يروي شيء واضح ملموس، جوع وكذا وفعل هذه الأمور، وكم من الناس قد تمر بهم مثل هذا، قال: فعرف ما في نفسي وما في وجهي، فتبسم وقال: "أبا هر الحق"، وأبا هر هذه من باب الملاطفة والظرافة من النبي عليه الصلاة والسلام، "الحق"، قال: فاتبعته، فدخل فاستأذنتُ فأذن لي، فوجد لبن في قدح فقال لأهله: "أنّى لكم هذا اللبن؟"، قالوا: أهداه لك فلان، أبو هريرة وصل إلى المطلوب إثباته، فماذا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: "يا أبا هر انطلق إلى أهل الصفة فادعهم لي"، طبعا الآن أصبحت المسألة مؤجلة بالنسبة لأبي هريرة وكم سيبقى له من هذا اللبن، يقول وهو يصف قال: فأحزنني ذلك وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال، إذا جاءته صدقة أرسل بها إليهم ولم يرزأ منها شيئاً – لا يأخذ الصدقة- وإذا جاءته هدية أرسل إليهم فأشركهم فيها فأصابوا منها، قال: فأحزنني إرساله إياي وقلت: كنت أرجو أن أشرب من هذا اللبن شربة أتغذى بها، فما يغني عني هذا اللبن في أهل الصفة؟ قال: وأنا الرسول، فإذا جاؤوا أمرني فكنت أنا أعطيهم ولم يكن من طاعة الله ورسوله بد، يقول: فذهبت، فأذن لهم فأخذوا مجالسهم، قال: "يا أبا هر"، قلت لبيك يا رسول الله، قال: "قم فأعطهم" قال: فآخذ القدح فأعطي الرجل حتى يروى، ثم يرده إليّ حتى روي جميع القومِ فانتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ القدح فوضعه على يده ثم رفع رأسه فنظر إليّ فتبسم، يعرف أن أبو هريرة الآن يقول: حتى متى؟ قال: "اقعد"، فقعدتُ فشربتُ، قال: "اشرب"، فشربتُ، قال: "اشرب"، فشربتُ، قال: "اشرب"، فشربتُ، قال: يا رسول الله والله لا أجد له مسلكا، فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام.

هنا أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو مثل الذي سبق ونذكر هنا أيضا ما يتعلق بعموم الأمة وهذا أمر مهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت شفقته على أمته ورفقه بها عظيماً، وقد ذكرت الآيات ذلك كما في قوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف: 6)، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ" (رواه البخاري)، ومن ذلك أيضاً حديث عبدالله بن عمرو أن النبي عليه الصلاة والسلام تلا قول إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (إبراهيم: 36)، ثم قال: وقال عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة: 118)، ورفع النبي عليه الصلاة والسلام يديه وقال: "اللهم أمتي أمتي" وبكى عليه الصلاة والسلام (رواه مسلم)، يذكر دعاء الأنبياء لأممهم وخوفهم عليهم، ثم يدعو لأمته، قال: فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك" (رواه مسلم في صحيحه).

وكان للنبي عليه الصلاة والسلام في الميادين المختلفة مواقف في هذا الرفق، من أهمها:

الرفق في الدعوة:

والرفق في الدعوة أمره مهم، وفي ذلك من شمائل النبي في سيرته كثير من الأحداث والأحاديث، منها حادثة إسلام أبي ثمامة رضي الله عنه، رواها أبو هريرة، وأبو ثمامة سيد بني حنيفة، فسيد قومه رجل من سادات العرب، بعث النبي عليه الصلاة والسلام خيلاً قبل نجد فجاءت بهذا الرجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، جاؤوا به أسيراً فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "ما عندك يا ثمامة؟" فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، يعني ورائي من قومي من يطلبون دمي، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، -يعني إن قتلت فهناك من يأخذ بالثأر، وإن أطلقت وأنعمت فأنا شاكر لا أنسى المعروف، وإن أردت فداء من المال تُعطى ما تريد-، فتركه النبي عليه الصلاة والسلام حتى كان من الغد، فقال له: "ما عندك يا ثمامة؟"، قال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وأعاد القول فتركه، ثم جاءه من الغد، قال: "ما عندك يا ثمامة؟"، قال: ما قلت لك، أعادها ثلاثا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أطلقوا ثمامة"، كان يمكن أن يطلب على أقل تقدير الفداء لأن الرجل سيد قومه وصاحب مال، فقال: "أطلقوا ثمامة"، لمَ ربطه في المسجد؟ حتى يرى المسلمين ويرى صلاتهم ويرى سمتهم وهديهم، وهذه الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عندما أطلقوه، فماذا صنع؟ انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ، وإنّ خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ -يقول كنت أريد أن أذهب إلى العمرة وأخذوني لكن انظروا إلى التأثير في الرفق وحسن المعاملة، البلد والدين والرسول عليه الصلاة والسلام من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تغيرت مشاعره وعواطفه-، ثم قال هذا القول، فبشره النبي عليه الصلاة والسلام وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة وبدأ عمرته على هدي الإسلام، قالوا: صبوت؟، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد، ثم قال من عنده لقريش: ولا والله ما يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم، مقاطعة اقتصادية مباشرة، قال: حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي الرفق في الدعوة أيضا حديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يعتمر أرسل إلى أهل مكة يستأذنهم ليدخل مكة في قصة صلح الحديبية، فأخذ الحديث بينهم المراسلات حتى جاء وقت كتابة الصلح قال: فأخذ يكتب الشرط بينهم علي بن أبي طالب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: لو علمنا أنك رسول الله لم نمنعك ولا تابعناك، ولكن اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله، فقال عليه الصلاة والسلام: "أنا والله محمد بن عبدالله، وأنا والله رسول الله"، قال: وكان لا يكتب، فقال لعلي: "امح رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال علي: والله لا أمحوه أبدا، قال: "محمد رسول الله، امح رسول الله"، قال: والله لا أمحوه أبدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأرينيه" فأراه، فمحاه بيده، وقبل ذلك في الرواية الأخرى لما قالوا: بسمك اللهم، فكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم"، قالوا: لا، قل باسمك اللهم، فقال لعلي فأبى ثم فعل، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يريد أن يقف عند هذه الأمور الصغيرة، ويتجاوزها ويتساهل فيها، ويجعلها على سبيل السماحة والسلاسة وكان يقصد إلى ما وراء ذلك، وكان ما فعله عليه الصلاة والسلام في هذا هو الذي كان فيه الخير والنفع للمسلمين.

الرفق مع النساء:

ومع النساء أيضا رفق ولطف وهو أولى لأن النساء أرق وأضعف، ومن هنا لما حدى الحادي قال النبي عليه الصلاة والسلام: "يا أنجشه، رويدك، رفقاً بالقوارير"، حتى لا يزداد تأثر النساء، وهذه حادثة لعائشة رضي الله عنها وفيها أيضا أحكام فقهية، لما هلت عائشة بالحج حاضت قبل أن تصل إلى مكة فحزنت ودلّها النبي عليه الصلاة والسلام أن تفعل ما يفعل الحاج إلا أنها لا تطوف بالبيت ثم انتهت، فقالت: يا رسول الله يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج، هي تقول هنا بسياق الحديث بلفظه في رواية مسلم تقول: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً إذا هويت الشيء تابعها عليه"، ما دام الأمور فيها يسر وسهولة وليس هناك ما يمنع، يوافق.

قال: فأرسلها مع عبدالرحمن بن أبي بكر في التنعيم وكان ذلك مما سعدت به عائشة رضي الله عنها وفرحت به.

وهذه أيضا حادثة أخرى في شأن النساء مروية من حديث سعد بن أبي وقاص عند البخاري ومسلم وهي لطيفة أيضاً: قال سعد: استأذن عمر على رسول الله عليه الصلاة والسلام وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر، قمن يبتدرن الحجاب فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "عجبتُ من هؤلاء اللائي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب"، فقال عمر: فأنت يا رسول الله أحق أن يهبنه أو أن يهبن، ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قلن: نعم، أنت أغلظ وأفظ من رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً، إلا سلك فجاً غير فجك".